قصة قصيرة / أحلام الأبرياء
| علي الفضلي |
1 يناير 1970
10:47 ص
في حي من أحياء الوطن العربي، حيث بساطة الحياة المادية، عاشت عائلة أبو أيمن منذ ردح من الزمن وأفرادها يجتهدون بتفان لكسب لقمة العيش الكريمة في بيع بعض المحصولات الزراعية التي يقطفون ثمارها مع دوران كل حول، متأملين بشغف تحولا جديدا في حياتهم ينقلهم إلى حياة مادية أفضل.
أبو أيمن وأم أيمن وضعا جل اهتمامهما في تربية أبنائهما الأربعة: أيمن، وهيثم، وأنس، ومحمد، وجاهدا في سبيل أن يوفرا عيشا كريما لهم، وقد حرما نفسهما من كل لذة وراحة في سبيل أن يكبر هؤلاء الأبناء ليعوضوا سني التعب التي أرهقت أبويهما.
حلم أيمن
وفي صباح يوم مشرق وجميل من أيام الربيع، استيقظ أيمن (الابن الأكبر) فرحا مستبشرا على غير العادة، وقد أقبل نحو أمه التي كانت تحضر الخبز والزيت للإفطار، فأخذ بيدها وقبّلها، وقال: أماه!، لقد رأيت في المنام ثلاثة طيور بيضاء مقبلة نحوك، وأخذتي تطعمينها ثم رحلت، وطير رابع في يدك، قد تبدلت به حالنا منذ أن أقبل علينا، وقد حققت حلمي في أخذ شهادة الطب التي أسعى إليها، وحقق إخوتي أحلامهم، وتبدلت حالنا، وأصبحنا نملك الكثير من العقار والأعمال التجارية، وكان لنا شأن كبير في تغيير الحالة الاجتماعية لبلادنا.
قالت له أمه وقد أوجست في نفسها خيفة: يا بني!، لا تقصص رؤياك على أحد مقرب من السلطة، فإني أخشى أن يكيدوا لك كيدا!، فإني أظن أن رؤياك تخفي وراءها تغييرا كبيرا قد يطول حياة بلادنا كلها يمس في المقام الأول السلطة الحاكمة.
قال: يا أماه، لا تخافي ولا تحزني، سأعمل بصمت ولن أبلغ أحدا عن حلمي.
الثورة
كانت الحقبة التي عاشت فيها عائلة أبو أيمن قد طغى عليها الظلم، والفقر، وتقييد الحريات. هذا الظلم كان مبعثه السياسة التي تتبعها السلطة الحاكمة، وقد بعثت هذه الحالة في نفوس الكثير من أفراد الشعب المطالبة بتسيد العدالة والحق بدلا من الظلم والمنع، وأخذت المجاميع الشعبية تتجمع في كل يوم جمعة تطالب بالحرية والعدالة، ولم يمض وقت طويل حتى تحولت الميادين التي ضجت تنادي بالحرية إلى ميادين ممتلئة بالدماء، بعد أن واجه النظام هذه الصرخات بوابل من الرصاص.
ومضت الأيام، واشتعلت معها نيران الحرب، وظهرت الفرق المختلفة التي حملت السلاح، منها من وجهت سهامها نحو النظام، ومنها من تاهت وجهتها، ووجهت سهامها نحو كل إنسان، حرب طاحنة وقتال عنيف، كان الخاسر الأكبر فيها هو الإنسان البريء.
الأبرياء
وذات يوم، ذهب أيمن إلى المسجد لأداء فريضة الجمعة، وما إن خرج حتى تلقته رصاصة من جنود السلطة الحاكمة، سكنت في قلبه فأردته صريعا، وقد لحق الرصاص بخمسة من أقربائه، وأخذ الناس يتساقطون صرعى على الأرض، حتى غدت ساحة المسجد حماما للدماء، وما إن انجلت غبرة الجنود الذين قتلوا الأبرياء والأعداء، حتى جاء أهل الحي وبعض الذين نجوا من هذه المجزرة متجهين نحو القتلى.
انطلق الناعي مسرعا صوب بيت أبو أيمن، وهو يصيح: لقد قتل أيمن برصاص النظام، فأقبلت أم أيمن نحوه وهي مندهشة ما أذاع من خبر، وأخذت تصيح وتولول وتنثر التراب على نفسها حسرة على ابنها.
كان مقتل أيمن قد أوجع أمه وجعا شديدا، وقد خيم السواد على دار أبو أيمن الذي أكثر من الخلو بنفسه بجانب قبر ابنه، وشهد البيت الذي كانت تسوده حالة التفاؤل والسعادة، شهد الحسرة على فقد أعز إنسان كانوا يتأملون نجاحه وخيره.
وما هي إلا أيام قليلة، ليقرر هيثم، الابن الثاني في عائلة أبو أيمن، الالتحاق مع الثوار موجها سهامه نحو جيش النظام الباغي، وقد حاولت أم أيمن منع هيثم من حمل السلاح إلا أنه استعصى عليها الأمر بعد أن أصبح الحي الذي يعيشون فيه يضج في كل يوم بأصوات طلقات النار، وعندما التحق أيمن في صفوف كتيبة من كتائب الثوار وأظهر في ساحات القتال شجاعته، حتى استحق قيادة إحدى الكتائب، لم تمض سوى بضعة أيام حتى دب الخلاف بين أفراد الكتيبة، ليعمد أبو البراء القائد السابق للكتيبة على إقصاء هيثم من سدة القيادة، فأقدم وبكل بشاعة على تصويب بندقيته نحو هيثم على حين غرة، ليسقط هيثم صريعا على الأرض!.
وفي أثناء ذلك، كان أنس الابن الثالث في عائلة أبو أيمن في طريقه متوجها إلى هيثم، بعد أن ودع أمه التي أرسلت معه الطعام والشراب لأخيه، وعندما بلغ منتصف الطريق، أقبل عليه عدد من قطاع الطرق، وبدأوا معه جدالا دينيا، فلم تكن ردوده مستساغة لديهم، لينقضوا عليه ضربا بالسيوف حتى قطعوا أعضاء جسده وقاموا بالتنكيل به وبتصوير تعذيبه وقتله ونشره في كل وسط إعلامي.
وبسرعة البرق، وصل نبأ مقتل هيثم وأنس إلى بيت المواجع... بيت أبو أيمن، وما إن سمعت أم أيمن بهذا حتى خرت إلى الأرض مغمية عليها، أما أبو أيمن فلم يتمالك نفسه فخر هو أيضا باكيا مقهورا على فقد أبنائه وفارق الحياة من شدة بكائه.
يا لها من مأساة!، البيت الذي كان ينتظر مستقبلا مشرقا، أصبح بيتا منكوبا تخيم عليه رائحة الموت، وما أعجبها من مفارقات!، فالأبناء الثلاثة لم يكن قاتلهم واحدا، ولم يكن عدوهم واحدا، بل توزعت دماؤهم على إجرام ثلاث جهات: النظام الحاكم، الثوار، وقطاع الطرق، والعجيب أن هذه الجهات الثلاث لم تزل تتقاتل في ما بينها بكل شراسة بعيدة عن الأخلاق والقيم.
الحسرة ملأت قلب أم أيمن على فقدها لأبنائها الثلاثة، كما امتلأت بغضا على قاتليهم، يا له من شعور صعب!، كيف وزعت أم أيمن دموعها على أبنائها الثلاثة؟، بل كيف وزعت حقدها على القاتلين الثلاثة؟.
مرت السنون، ولم تزل الحرب قائمة، وعندما بلغ محمد (الابن الأصغر) مرحلة الفتوة لم يحتمل الحال التي وصلت إليها بلاده من الدمار، وراح ينادي باسم الإنسانية عبر المنابر الإعلامية، يذكّر فيها الأطراف المتنازعة بالرجوع إلى إنسانيتهم قبل أن تباد الإنسانية في بلاده، صرخات محمد لم تجد لها آذانا صاغية من أطراف النزاع، وبعد أن فقد الأمل في تحركاته قرر الرحيل بمعية أمه بعيدا عن وطنه، والوجهة كانت عاصمة الضباب... لندن.
لجأ محمد إلى لندن والتحق بأرقى الجامعات فيها، ليحصل بعد ذلك على شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال، ومع مرور الأيام اشتغل محمد في التجارة وصار يملك من المال والعقار الكثير، وهو ينتقل من إنجاز إلى آخر.
وفي هذه الأثناء والحال التي تبدلت في حياة ما تبقى من عائلة أبو أيمن، عادت أم أيمن بذاكرتها إلى الوراء وأخذت تبكي مستذكرة حلم ابنها أيمن الذي قصه عليها قبل مقتله، وأدركت ماذا كانت تعني تلك الرؤيا والطيور الثلاثة التي رحلت عنها، والطير الذي كان بيدها، وماذا كانت تعني تلك الرمزية في هذه الرؤيا.
وبينما كان محمد ينتقل من مرحلة نجاح إلى أخرى، لم تزل الحرب دائرة في بلده الأم، ولم تزل الدماء تسيل ولا تفرق بين عدو أو صديق، ولا أحد يعلم متى ستنتهي!