| علي الرز |
قرت أعينهم.
من قال ان الذين قضوا في بيروت والمناطق لم يفوزوا بشيء من اتفاق اللبنانيين على وزير بالزائد ونائب بالناقص؟
انظروا حجم التأثر على وجوه المسؤولين الذين كانوا «يضحكون من الالم». راقبوا لمحات «الوقار» التي شكلت سلوكا عاما في الحديث عن الاستقرار الامني. تابعوا بتأثر كيف وقف الجميع دقيقة صمت... دقيقة صمت... من اجل الذين استشهدوا وهم في طريقهم الى المخبز لشراء الخبز، او في طريقهم الى «الزاروب» الآخر هربا من قذائف الـ «بي سفن» التي افشلت المؤامرة الاميركية العربية المحلية في بيروت، او دهسا تحت اقدام الاشاوس حماة التظاهرة العمالية «المحتجة» على رفع الحد الادنى للاجور، او برصاص الكلاشنيكوف لانهم ارتكبوا «فعل الخيانة» بالسير في جنازة راحل في الطريق الجديدة.
قرت أعينهم. ستستقر روح من امضى عمره يدرس ويتخصص ويحصل على الدكتوراه ثم اراد نقل امه من رأس النبع الى البربير فحاصره المسلحون واطلقوا النار عليه وعلى أمه التي أبت الا ان ترحل معه بعدما ربته «كل شبر بندر». دقيقة صمت، اعلنت اول من امس، من البرلمان احتراما له ولمئة قتيل و300 جريح سقطوا في اجتياح مسلح للعاصمة ناهيك عن الشهداء الذين سقطوا على مدى سنوات وابوا الا ان يكونوا شهودا على الفتنة المخصبة التي لن تستقيم تجلياتها من دونهم.
«متنا وشفنا» تقديرا لا يماثله تقدير. وقف الجميع بوقار ولكن باستعجال ايضا، كأن الثواني الستين اشبه بمرايا ستين تعكس قبح الكثيرين وحقيقتهم. كأنها شاشات بلازما تعرض بسرعة مشاهد الذين سقطوا في «التصدي للمؤامرة» سواء بالرصاص او القذائف في الشوارع والبيوت او بالفؤوس والسكاكين والخناجر في التلال والمستشفيات... لذلك اختصرت الدقيقة بـ «ارادة لبنانية جامعة» الى 40 ثانية او اقل من دون اي اعتراض او نقطة نظام.
يا ليتهم كانوا معنا امس. لم يتوقع احد من الميتين انه سيصل الى مرحلة يحسده فيها الحي... يللا يستأهلون. لم يخل خطاب من التطرق الى الضحايا الابرياء... يستأهلون. لم تخل كلمة من الحديث عن ضرورة تجاوز الفتنة وفتح صفحة جديدة كي لا يتكرر سفك الدماء... ايضا يستأهلون. بل اكثر من ذلك، سيسمع شهداء تحرير بيروت من «القرار الحكومي الجائر» اناشيد وقصائد تخلد ذكراهم، وربما قيل فيهم انهم سقطوا على «مذبح» قيامة لبنان، او «ماتوا ليحيا لبنان»، او ربما فكرت مجموعة من اصدقائهم ومحبيهم باقامة نصب صغير او لوحة تذكارية او في اضعف الايمان احياء ذكرى سقوطهم بمهرجان او احتفالية تكون في الوقت نفسه مناسبة لتلاقي الذين افترقوا في السياسة والحديث عن الحصص في الحكومة والادارات واهمية حل المشاكل بالحوار... قيمتهم كبيرة «وما في شي من قيمتهم».
احتفالات واناشيد وفرق موسيقية عمت لبنان من شماله الى جنوبه وسجاد احمر وتصفيق وانتخابات واوراق بيض واعتراضات في النظام وغزل وهرج ومرج وقبلات وأحضان وحضور عربي ودولي غير مسبوق وكلمة لرئيس المجلس واخرى للرئيس الجديد واستقبالات في صالون البرلمان واجتماعات جانبية وفضائيات عادت الحياة الى برامجها الحوارية 24 ساعة على 24 وتحليلات بالاطنان وصحف تتبارى في العناوين واللقطات و«صور عا مد عينك والنظر»... ودقيقة صمت من اجل الذين دفعوا الثمن الحقيقي لـ «انضاج التسوية».
هذا هو لبنان الجديد- القديم. حيث الدم ماء او مشروب احتفاليات، وحيث القصاص موت بدل ان يكون حياة، وحيث الفجيعة جسر للمسؤولين بدل ان تكون جسرا للوطن، وحيث المجزرة دقيقة صمت بدل ان تكون منعطفا تاريخيا ودرسا انسانيا.
... ليتها كانت دقيقة كلام يحكي فيها الشهداء ويصمت الزعماء... ليتها كانت كلمة واحدة يقولها الشهداء عن الزعماء.
alirooz@hotmail.com