لم يكن طارئا على الحياة السياسية والشأن العام عندما قبل تولي حقيبة وزارية، بل هو تدرج في الكثير من المناصب التي ابقته على تماس مع القرار وصناعته.
ولم يكن محايدا في معتقداته، بل هو منتم الى تيار كبير له حضوره في مساحات العقيدة والفكر والمجتمع. لكنه لم ير تناقضا بين ان تكون للانسان معتقداته الخاصة وبين الخدمة العامة للوطن والدولة والمجتمع بكل اطيافه بمن في ذلك الذين يخالفون افكاره، فالانتماء العملي عنده تجرد واعتدال واقدام والانتماء الفكري قضية خاصة به لها مساراتها واماكنها واطرها.
ولم يكن بعيدا عن الدائرة السياسية التي اتسعت لمجلس الامة والحكومة وحتى للاعلام الكويتي الذي ما زال مضرب مثل في التطور والتحرر، فكان لاعبا اساسيا في تنظيم آلية العلاقة بين السلطتين، يعمل بصمت وينجز بصمت ثم يعبر عما يجول في خاطره كتابة وشعرا.
دخل الى الحكومة ممثلا لتيار سياسي اساسي في الكويت، لكنه منذ اللحظة التي أدى فيها القسم اعتبر نفسه وزيرا لجميع الكويتيين وانكب فورا على العمل والانجاز بالصمت المعهود عنه نائيا بعمله عن التجاذبات السياسية والحملات والتصعيد، فهو من مدرسة سياسية وفكرية واضحة تماما في رفضها لاسلوب المناورات والصفقات من اجل مصالح آنية او شخصية ويعتبر أن الكويتيين، مجتمعا ودولة، يستحقون اداء مختلفا لحل مشاكل اساسية وحقيقية تتعلق بتحديات المستقبل لا باجترار اساليب الماضي.
لن نقول ان الرجل صدم بحجم التأزم في العلاقة بين السلطتين لأنه خبير متمرس بحكم موقعه السابق بآلية هذه العلاقة، ولن نقول انه ضاق ذرعا من اول الطريق بحجم التصعيد الذي تطاير يمينا ويسارا بعد تشكيل الحكومة لأنه يعرف تماما اتجاهات الريح البرلمانية ولأنه معروف بصبره وجلده وهدوئه وقدرته على تجاوز المعضلات، ولن نقول إنه فقد صبره من استجواب لوزير زميل وهو الذي كانت ملفات الاستجوابات كلها تحت مرمى نظره يقدم بصمته وصبره النصائح الذهبية لجميع الاطراف من أجل حلول أفضل.
... ربما كمنت صدمة الرجل الاكبر في اسلوب ادارة اقطاب من التيار الذي ينتمي اليه للقضايا السياسية، وربما فوجئ بأن اسلوب المناورة الذي يعاديه خطه الفكري والاجتماعي صار سلوكا لبعض اتباع هذا الخط، وربما فوجئ اكثر بأن السعي الى ابرام صفقات على حساب المبادئ العامة كان هدف من امن ظهره له فاذا به يسبق الجميع في الالتفاف والتفاوض واستدراج العروض، وربما فوجئ اكثر واكثر بأن من قدم محاضرات في السابق عن طاعة ولي الامر وافتى بعدم جواز المشاركة في هجوم على حكومة تضم ممثلا لتياره عاد وانقلب على نفسه بأسلوب اقل ما يقال فيه أنه رخيص.
ربما وربما وربما... كثرت الاحتمالات، لكن شريدة المعوشرجي حافظ على نقائه السياسي والفكري، وعلى الالتزام بمبادئ انتمائه العقيدي، واعلن انه لا يرغب في البقاء وزيرا في حكومة يعارضها نواب تيار السلف في مجلس الامة.
هل فعل ذلك انسجاما مع موقف نواب السلف؟ هل فعل ذلك احتجاجا على موقف نواب السلف؟ ليس الامر مهما لان شريدة فعل ذلك انسجاما مع نفسه ونقاء عقيدته ورفضه انحدار المبادئ الى مستوى المصالح والمناورات والصفقات، سواء أتت من الحكومة او من... رفاق الطريق.
مهما كان مصير استقالة شريدة، وان كان الجميع يتمنى ألا يقبلها سمو الامير، فالمؤكد ان الرجل حفر مقعدا متقدما في التاريخ السياسي الكويتي واعاد الى الصورة نماذج القدوة في النقاء والصدق والشفافية.
هذه المرة كان لصمت الرجل دوي العاصفة... فمن يسمع؟
جاسم بودي