هناك جانب إيجابي في إعلان «مرشد الجمهورية الإسلامية» في إيران السيد علي خامنئي موقفاً واضحاً من المؤتمر الدولي الذي دعا إليه الرئيس بوش الابن الشهر المقبل من أجل محاولة إيجاد تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يتمثل هذا الجانب الإيجابي في أن النظام في إيران انتقل في ممارساته إلى مرحلة جديدة. لم يعد هذا النظام يخفي أنه يريد أن يكون هناك اعتراف به من العالم كلاعب أساسي لا يمكن تجاوزه أو تجاهله على الصعيد الإقليمي، أي من أفغانستان إلى غزة وحتى إلى ما هو أبعد من غزة في اتجاه مصر والسودان والدول العربية في شمال أفريقيا، مروراً في طبيعة الخلف بمنطقة الخليج وصولاً حتى إلى اليمن.
اتخذ خامنئي الذي يعتبر السلطة العليا في «الجمهورية الإسلامية» موقفاً في غاية السلبية من المؤتمر الدولي، داعياً الدول العربية والفلسطينيين إلى مقاطعته. إنه يريد القول بكل بساطة أن إيران لاعب أساسي في فلسطين أيضاً، تماماً كما الحال في العراق ولبنان وأن لديها رأيها في ما تفعله السلطة الوطنية وفي العلاقات التي تحاول نسجها مع الخارج، بما في ذلك الولايات المتحدة التي هي، إلى إشعار آخر، القوة العظمى الوحيدة في العالم.
لم يعد خافياً على أحد، بما في ذلك الذين يلعبون دور الساذج لدى الحديث عن إيران وسياساتها، أن هناك مشروعاً إيرانياً متكاملاً في المنطقة. كذلك، لم يعد سراً أن الكلام الذي صدر أخيراً عن الرئيس محمود أحمدي نجاد عن استعداد بلاده لـ«سد الفراغ» الذي يمكن أن ينجم عن الانسحاب الأميركي في العراق كلام جدي ويعكس توجّها إلى لعب دور القوة العظمى الإقليمية التي لا يحدث شيء في الشرق الأوسط من دون رضاها وموافقتها بما في ذلك انتخاب رئيس ماروني للجمهورية في لبنان. من حق النظام في إيران امتلاك هذا النوع من الطموحات في ضوء ما حل بالعراق، وبعدما استطاع ملء الفراغ الذي نجم عن الانسحاب العسكري السوري في لبنان، أن النظام الإيراني مكّن النظام السوري من أن يكون موجوداً على الأرض اللبنانية، بعد السادس والعشرين من أبريل 2005، بفضل التسهيلات التي قدمها له «حزب الله»، هذا الحزب الذي ليس سوى ميليشيا مسلحة، بل لواء من ألوية «الحرس الثوري» الإيراني بعناصر لبنانية...لولا «حزب الله» لما كان بقي نفوذ للنظام السوري في لبنان، نفوذ حقيقي وفعلي ومسلّح، يسمح له بالقول إنه مع ما يتفّق عليه اللبنانيون وهو يعرف تماماً أن ليس في استطاعتهم الاتفاق على أي شيء ما دام هناك دولة داخل الدولة اللبنانية. أكثر من ذلك، ما دام هناك جيش تابع لإيران يمتلك من الأسلحة أكثر بكثير مما يمتلكه الجيش اللبناني الشرعي!
إيران قوية ولديها سياسة في غاية الذكاء. لديها من الدهاء ما لا يمتلكه العرب الذين يفتقدون القدرة على التحدث عن مشروع خاص بهم للمنطقة. وفي حال كان على المرء أن يكون منصفاً، ليس أمامه سوى الاعتراف بأن النظام الإيراني استوعب النظام السوري وكان المنتصر الأوَل من الحرب الأميركية على العراق، فهو الطرف الذي لديه اليد الطولى في العراق بغض النظر عن وجود مئة وستين ألف عسكري أميركي منتشرين في أراضي هذا البلد العربي سابقاً.
إيران قوية في العراق وتمتلك قرار الحرب والسلام في لبنان حيث لديها ميليشيا خاصة بها قادرة على أن تفعل ما تشاء بما في ذلك احتلال وسط بيروت والاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة وتعطيل الاستثمار في البلد الصغير. في الوقت ذاته، لا بدّ من الإقرار بأنه لولا التعليمات الإيرانية الصارمة لـ«حزب الله» لكانت الفتنة السنّية ـ الشيعية أخذت بعداً مختلفاً عندما حصلت مواجهات في الشارع البيروتي في يناير الماضي. كان كافياً وقتذاك أن تصدر تعليمات من طهران ليتوقف تمدد «حزب الله» في بيروت ويقتصر على الوسط التجاري...ولتتفادى العاصمة اللبنانية كارثة حقيقية، بعدما تصدى السنّة لعناصر الحزب الإلهي في الأحياء البيروتية. الآن، يريد النظام الإيراني إثبات أنه لاعب أساسي في لبنان، وأنه في استطاعته أن يكون شريكاً حقيقياً في تشكيل السلطة في لبنان. لذلك تحدث خامنئي في الماضي القريب عن «هزيمة» الولايات المتحدة في لبنان، ولذلك يربط الآن بين رفض بلاده للمؤتمر الدولي الذي دعت إليه الادارة الأميركية و«الصفعة» التي تلقتها إسرائيل من «حزب الله» الصيف الماضي.
يعكس كلام «مرشد» الجمهورية في إيران رغبة واضحة لبلاده في استخدام الأوراق التي في حوزتها بما في ذلك ورقة «حماس» في فلسطين. ولم يعد سراً أن «حماس» التي تسيطر على قطاع غزة بدأت توزع أنباء عن حوار قريب مع «فتح» والسلطة الوطنية من دون أن يكون لهذه الأنباء أساس. يبدو أنها تستعد لعمل عسكري ما في الضفة الغربية أو خارجها قبل انعقاد المؤتمر الدولي. إنها تسعى إلى تغطية عملها العسكري مسبقاً عن طريق الإشاعات التي تبثها عن استعدادها للحوار. ولكن ما قد يكون أهم من ذلك كله، أن هناك استعداداً إيرانياً لإثبات الوجود على غير جبهة ولمنع السلطة الوطنية الفلسطينية من الاستفادة من الانقلاب الذي حصل في غزة، والذي سمح لها بحرية في الحركة والانصراف إلى محاولة إيجاد تسوية مع الإسرائيليين. صحيح أن السياسات العدائية لإسرائيل يمكن أن تفشل المؤتمر، لكن الصحيح أيضاً أن هناك فرصاً لتحقيق تقدم على طريق وضع أسس لتسوية نهائية تقوم على مبدأ الدولتين من جهة، وأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية من جهة أخرى.
في كل الأحوال، ثمة مصلحة فلسطينية في المشاركة في المؤتمر الدولي. مثل هذا النوع من المؤتمرات يؤكد أن القضية الفلسطينية حية، وأن فلسطين موجودة على الخريطة السياسية للشرق الأوسط، وأن هذا الحضور لا بد من ترجمته إلى واقع يتمثل في قيام دولة فلسطينية مستقلة قريباً يمارس الشعب الفلسطيني في إطارها حقوقه المشروعة مثله مثل أي شعب من شعوب المنطقة.
بكلام واضح كل الوضوح، ليس لدى الشعب الفلسطيني ما يخسره من المؤتمر الدولي بغض النظر عن نجاحه أو فشله وبغض النظر عن السياسة الأميركية الخرقاء التي جلبت المصائب ولا شيء غير المصائب والكوارث على المنطقة. وبكلام أوضح من الوضوح نفسه، إن ذهاب الفلسطينيين إلى المؤتمر، في حال انعقاده، دليل على رفضهم أن يكونوا وقوداً في صراعات ونزاعات إقليمية لا علاقة لهم بها، بما في ذلك رفضهم لأن يكون للنظام الإيراني ولغيره دور في تحديد خيارات الشعب الفلسطيني. ما الذي لدى خامنئي يقدمه للفلسطينيين غير استمرار قضيتهم ورقة تستخدم في المساومات بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى؟
من حق إيران استخدام أوراقها في المنطقة. ولكن من حق الفلسطينيين والعرب عموماً أن يقولوا لها إن اللعبة التي تمارسها خطرة على الجميع، نظراً إلى أنها تصب في زيادة الشرخ المذهبي الذي لا يفيد أحداً باستثناء العدو الإسرائيلي. إنه الشرخ الذي نتج عن الاحتلال الأميركي للعراق وعن الخطوات التي اتخذها الأميركيون في مرحلة ما بعد الاحتلال وعن التدخل الإيراني المكشوف في شؤون العراق وفي شؤون لبنان من زاوية شيعية ضيقة. حصل هذا التدخل ولا يزال يحصل بهدف تغيير طبيعة التركيبة العراقية، بما في ذلك التوازن التاريخي بين السكّان القائم في بغداد، فضلاً عن تغيير طبيعة المجتمع اللبناني وحتى خريطة الانتشار للطوائف اللبنانية على أرض البلد الصغير. هل بين العرب من يستغل الكلام الأخير لـ«المرشد» في إيران لتسمية الأشياء بأسمائها والتحذير علنا من خطورة هذا النوع من الكلام على مستقبل المنطقة؟
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن