من إيجابيات زيارة زعيم «تيار المستقبل» في لبنان النائب سعد الحريري لواشنطن، حيث التقى الرئيس بوش الابن، إنه قال ما يجب قوله من دون مواربة. حدد صراحة من يقف وراء الاغتيالات والتفجيرات في لبنان ومن وراء مصائب لبنان. والأكيد أن سعد الحريري أثار بذلك استغراب العرب ودهشتهم نظراً إلى أن عادة المصارحة غير قائمة إلا لدى القليلين منهم، حتى لا نقول إن مثل هذه الصراحة ليست موجودة سوى في دول لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة، بينها الأردن حيث ملك شاب اسمه عبدالله الثاني ليس لديه ما يخفيه أو يستحي به. والأهم من ذلك كله، أن سعد الحريري دعا من واشنطن إلى عدم التدخل في شؤون لبنان. وبدت دعوته موجهة إلى الجميع بما في ذلك البلد المضيف. كانت تلك إشارة واضحة إلى مدى الاستقلالية التي يتمتع بها لبنان الرسمي ممثلا بالأكثرية النيابية التي يتزعمها سعد الحريري.
ما لم يقله الزعيم الشاب أن لعبة النظام السوري واضحة كل الوضوح. لم تعد اللعبة تنطلي على أحد. كل الألاعيب التي يمارسها مكشوفة. إنها تنتمي إلى مدرسة في السياسة لا تعرف لغة أخرى غير لغة الابتزاز ولا بضاعة قابلة للتصدير سوى الإرهاب. هل لدى النظام السوري بضاعة يصدرها غير الإرهاب؟ هل من بضاعة يصدرها إلى لبنان غير من هم على شاكلة أحمد جبريل، حليف «حزب الله» الذي أبلى البلاء الحسن في تدمير فنادق بيروت في العامين 1975 و 1976 خدمة للنظام السوري الذي يكره بيروت وكل ما له علاقة بالإعمار والبناء والحضارة والتطور والأزدهار؟
يفترض في من يريد فهم الأبعاد الحقيقية للكلام الذي أدلى به أحمد جبريل أخيراً إلى «الجزيرة» عن إرسال مسلحين إلى لبنان، التفكير ملياً في الاعتصام الذي يشهده وسط بيروت منذ أشهر عدة. ما لم يقله سعد الحريري أيضاً أنه لا يمكن إلا المقارنة بين ما كان يرتكبه أحمد جبريل في الأعوام الأولى من الحرب اللبنانية منتصف السبعينات وما يفعله حالياً المعتصمون وسط بيروت، بناء على طلب سوري، الذين لا هم لهم سوى الاعتداء على كل ما له علاقة بالحياة في لبنان وفي قلب بيروت تحديداً. المفارقة أن «حزب الله» حل مكان أحمد جبريل في الاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة بغطاء من مرشح لرئاسة الجمهورية اسمه النائب ميشال عون كان يقول في الأمس القريب وأمام إحدى لجان الكونغرس في واشنطن بعدما أقسم اليمين: «لا يمكن الفصل بين النظام السوري والإرهاب. إن سورية (كان عليه أن يقول النظام السوري) تؤمن الملاذ لعدد كبير من المنظمات الإرهابية وتدير عملياتها». ويضيف: «أن سورية تضرم النيران لتعطي لنفسها الذرائع لإطفائها، وبالتالي استمرار احتلالها للبنان. إن كل لبناني يجرؤ على مقاومة السيطرة السورية يتم اغتياله بكل بساطة».
لم يتغيّر شيئ بين البارحة واليوم. كان ميشال عون على حق عندما قال أمام الكونغرس، في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن، أنه «بعد الانسحاب السوري المتوقع، من المؤكد أن السوريين سيتركون وراءهم أدوات عدة من الإرهاب والتدمير كما منظماتهم شبه العسكرية والمخابراتية». هل انخرط ميشال عون وتياره في هذه المنظمات، بل أصبح أداة من أدواتها؟ من كان لديه أدنى شك في ذلك، زال هذا الشك مع انضمام «الجنرال» إلى مخيم البؤس والبؤساء والبائسين يستقي منهم مزيداً من الخبرة من أجل تهجير ما بقي من مسيحيي لبنان.
كل ما يحدث حالياً من تعطيل لانتخابات رئاسة الجمهورية عن طريق الشعوذة والتفسيرات المضحكة للدستور والتهديدات التي تصدر من هنا وهناك، يدل على أن النظام السوري يريد إقناع نفسه بأنه قادر على العودة إلى أراضي جاره عبر هذه الانتخابات من خلال ممارسة اللعبة نفسها وتصدير البضاعة ذاتها خصوصاً إلى لبنان واللبنانيين. صارت لعبة النظام السوري مملّة لولا أنه يلجأ إلى اغتيال أشرف اللبنانيين من الذين يرفضون الذلّ والمهانة، آخرهم النائب أنطوان غانم. إنها تتلخص بأن ليس لديه ورقة أهم من ورقة لبنان يريد استعادتها بأي ثمن كان. تكمن مشكلة هذا النظام بأنه لا يريد أن يتعلم لا من أخطائه ولا من أخطاء الآخرين وعلى رأسها أخطاء صدّام حسين الذي انتهى بالطريقة التي انتهى بها بعدما تسبب بكارثة للعراق والعراقيين.
في حال استمر النظام السوري في رهاناته على أدواته القديمة والجديدة من «حزب الله» إلى أحمد جبريل...انتهاء بأدوات الأدوات مثل ميشال عون، لن يتمكن من تحقيق ما يصبو إليه فحسب، بل إن اللعبة سترتد عليه أيضاً تماماً كما ارتدّت على صدام. سبب ذلك في غاية البساطة. ليس هناك من يريد التفاوض مع النظام السوري في شأن لبنان. وبكلام أوضح، ليس هناك من يريد التفاوض معه بعد أن يضع يده على لبنان، أي في ظل فراغ في الرئاسة أو في ظل رئيس سوري جديد. ليس هناك من يريد المساومة لا على المحكمة الدولية ولا على دوره الإقليمي وعلى ما يمكن أن يقدمه للأميركيين وغير الأميركيين من خدمات جليلة.
في حلقات نشرها أخيراً الزميل علي بلوط عن تجربته مع النظام العراقي منذ تعرفه على صدام حسين مطلع السبعينات، يتبيّن للقارئ أن الرئيس العراقي المخلوع لم يكتف بارتكاب جريمة احتلال الكويت، وإنما رفض «المساومة» في شأن الانسحاب منها أيضاً. كان يريد التفاوض مع الأميركيين من موقع كون الكويت «قطعة حلوى ابتلعناها وهضمناها». إلى أن تبين أنه لم يبتلع شيئاً ولم يهضم شيئاً وأن دخول الكويت كان نهاية نظامه، نظراً إلى أنه لا أحد يريد التفاوض معه على الكويت، بل أن التفاوض يصير ممكناً بعد الخروج من الكويت وعودتها إلى أهلها. يفترض في النظام السوري أن يفهم أن لا أحد، لا الأميركيين ولا الأوروبيين، يريد التفاوض معه على مصير لبنان. عليه أن يترك لبنان للبنانيين وأن يتوقف عن التدخل في شؤونه وإرسال الأسلحة إلى «حزب الله» أو غير «حزب الله» وترك اللبنانيين ينتخبون رئيسهم من دون ضغوط خارجية، هذا إذا كان لا يريد أن ينتهي كما انتهى نظام صدّام العائلي ـ البعثي، وأن يحل بسورية ما حل بالعراق. هناك أوجه شبه كثيرة بين تصرفات الرئيس بشار الأسد وتصرفات صدام بعد غزوه الكويت. هناك تراكم للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. هناك إصرار سوري على معالجة الخطأ بخطأ أكبر منه وعلى تغطية الجريمة بجريمة أخرى. هناك أكثر من سبب يدعو إلى القلق ليس على لبنان فحسب، بل على سورية أيضاً خصوصاً بعد تحول نظامها إلى تابع لإيران...وبعد إفلاسه إلى درجة تضطره إلى الاستعانة بأحمد جبريل وأمثاله.
قال سعد الحريري في واشنطن الكثير. لكن ما قاله بقي دون الحقيقة كلها ودون ما يتعرض لبنان من ظلم ليس بعده ظلم، لأنه يرفض أن يكون امتداداً للمحور الإيراني ـ السوري لا أكثر ولا أقل. أمن أجل هذا السبب يُعاقب لبنان. يعاقب لأنه شبع من أن يكون «ساحة» وهو ما سعى رجل حر حريص على كرامته وكرامة بلده اسمه سعد الحريري إلى إفهامه للأميركيين وغير الأميركيين. هل هناك أوضح من هذه الرسالة؟
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن