إشراقات من الحكم نظرية ابن عطاء... في المنع والعطاء

1 يناير 1970 09:35 م
بقلم علي يوسف السند

 


تتفاوت أحداث الحياة بين المنع والعطاء، وقد ارتبط المنع في أذهان الناس بالحرمان، وربما بتعاسة الحظ، فيصاب الإنسان بالحزن والقلق والاكتئاب لأن الأقدار قد جرت على خلاف مراده، فحُرم مما كان يرجوه، ومُنع مما كان يصبو اليه، وسبب ذلك قياسه المنع من الخالق على المنع من المخلوق، وما علم أن «العطاء من الخلق حرمان، والمنع من الله إحسان» لأن المنع من الله ليس بخلا أو احتياجا، وإنما لحكمة فيها صلاح للعبد، بخلاف المنع من البشر الذي تشوبه شوائب الحرمان أو الاحتياج أو النقص.


فلا ألبس النعمى وغيرك ملبسي


ولا أقبل الدنيا وغيرك واهب


إن هذا الحزن الذي يصيب الإنسان بسبب المنع، هو بسبب اعتقاده أن المنع يعني الحرمان، ويغيب عن ذهنه مراد الله من المنع، يقول ابن عطاء الله «إنما يؤلمك المنع؛ لعدم فهمك عن الله فيه» لأن الإنسان لو فهم سبب المنع لتسلى بما فهمه، ولعلم أن الله ما منع عنه إلا تلطفا بعبده ومراعاة لمصلحته، فلو عاش الإنسان مع صفة اللطف لله تعالى وصفة الرحمة، لما تألم من منع حصل له، ولما حزن لما يظنه من خير فاته «لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور»، ويقول تعالى: «لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم»، لذلك فمن فهم المنع من الله، لم يحزن ولم يسخط يقول ابن عطاء الله: «متى فتح لك باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء» لأن المنع قد يكون ظاهره حرمان، ولكن باطنه إحسان، «لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً»، لذلك «ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك».


ولو لم يكن في المنع إلا العودة إلى الله والاتصال به، لكفى، لأن الإنسان قد يصيبه الطغيان وينسى فضل مولاه عليه بعد توالي النعم عليه «إن الإنسان ليطغى ان رآه استغنى» فهنا يكون من لطف الله به أن يصيبه بما يعيده إلى حضرته ويقربه إليه بشهود صفات قهره وقوته.


ثم إن هذه النظرية تجعل المسلم لا يفرح الفرح المطغي بالعطاء ولا يحزن بالمنع، وإنما يكون خائفا راجيا عند حصول العطاء، لعلمه أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وان العطاء قد يكون وبالا عليه بأن يطغيه أو يبعده عن حضرة مولاه، وكذلك يكون راضيا فرحا بحصول المنع لعلمه ان المنع من الله لطف بعبده لأن «من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره» وذلك لأنه لا بلاء إلا وفوقه بلاء آخر، فالاقتصار على البلاء الأخف لطف من الله، وكذلك فإنه لا بلية إلا وهي مكفرة لذنوب صاحبها، أو موجبة له ثوابا أو مخففة عنه عقاباً، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله من خطاياه».


وكذلك فإن المنع من المنفعة العاجلة قد يكون فيه دفع لمضرة آجلة، فربما منع الله عنك شيئاً لو أعطاه لك لابتعدت عن حضرته، فهنا يكون المنع سببا في الاصطفاء، يقول ابن عطاء الله: «ربما وردت الظلم عليك؛ ليعرفك قدر ما من به عليك»، لذلك فإن من سذاجة الإنسان وظاهريته في النظر أن يفرح بكل عطاء، ويحزن عند أي المنع، لأن هذا دليل على قصر النظر وعدم التمعن في حقائق الأشياء يقول ابن عطاء الله: «متى كنت إذا أعطيت بسطك العطاء، وإذا منعت قبضك المنع، فاستدل بذلك على ثبوت طفوليتك، وعدم صدقك في عبوديتك»، لأنه من المعروف من حال الطفل أنه لا يشعر بما وراء المنع والعطاء، ولا يفرح أو يحزن إلا لحصول ظاهرهما.