«سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله» - «وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى»

الإسراء... والمعراج

1 يناير 1970 04:03 ص
| إعداد عبدالله متولي |

اليوم هو ذكرى الرحلة المباركة التي قطعها سيد الخلق اجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. اسراءً من البيت الحرام الى المسجد الاقصى، ومعراجا من الاقص» حتى سدرة المنتهى.

انها ذكرى «الاسراء والمعراج» هذه الحادثة التي جاءت تسلية وتثبيا للرسول صلى الله عليه وسلم لما لحقه من حزن في هذا العام لوفاة اهم نصيرين له في دعوته السيدة خديجة رضي الله عنها، وعمه ابو طالب الذي كان يمنعه من قريش وطغيانها، كما كانت ايضا بمثابة الدعم الالهي للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يستكمل مسيرته في الدعوة الى الله سبحانه وتعالى.

ان الكلام عن «الاسراء والمعراج» لا ينتهي لكننا سنتناولها من منظور علمي للوقوف على بعض الحقائق التي يجب ان يعرفها الجميع.





الإسراء... الرحلة الأرضية في عالم الملك لرؤية بعض الآيات الدالة على قدرة الله وعظمته

المعراج... الرحلة العلوية في عالم الملكوت ومشاهدة ما لا يمكن لبشر أن يراه إلا بالعون الإلهي   

• أجرى الله المعجزات والخوارق على أيدي أنبيائه ورسله ليصدقهم الناس  ويتبعوا الهدى الذي جاءوا به

• رحلة الإسراء والمعراج أشارت إلى عالمية الرسالة والصلة الوثيقة بين البيت الحرام والمسجد الأقصى

• منح الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة عطاءً روحياً تثبيتاً لفؤاده ولإتمام مسيرته

• أعجب ما في معجزة الإسراء والمعراج أنها غيب يجب على المسلم  أن يصدق بها ويثق فيها مطلقاً

• الإسراء والمعراج رغم ما فيها  من إعجاز إلا أنها من الصنف  الذي لم يجره الله بقصد التحدي

• لو قرأ المكذبون بالإسراء والمعراج التاريخ لعرفوا أن أحداثاً قبلها  وقعت منها حادثة نقل عرش بلقيس





تعتبر معجزة الإسراء والمعراج من أجل المعجزات وأعظم الآيات التي تفضل بها المولى سبحانه على نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأهميته هذه المعجزة فقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في موضوعين، الأول: في سورة سميت باسم هذه المعجزة وهي سورة «الإسراء» والتي بدأها سبحانه: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (1) سورة الإسراء.

والثاني في سورة النجم قال تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» (18) سورة النجم.

ولما لهذه المعجزة الخالدة من أسرار، فإننا سنتناولها اليوم من المنظور العلمي، في محاولة للوقوف على بعض الحقائق العلمية التي تؤكد صدقها وإعجازها في آن واحد،وقد تناول هذا الموضوع بالبحث الاستاذ الدكتور كارم السيد غنيم أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر وأمين جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، ولتقريب الأمر إلى الناس، فقد بدأ بالحديث عن نظرية أينشتاين، فقال: أدمج أينشتاين المكان والزمان في نظرية النسبية الخاصة عام 1905م، وأعلن أنه (ليس لنا أن نتحدث عن الزمان دون المكان، ولا عن المكان دون الزمان، ومادام كل شيء يتحرك فلابد أن يحمل زمنه معه، وكلما تحرك الشيء أسرع فإن زمنه سينكمش بالنسبة لما حوله من أزمنة مرتبطة بحركات أخرى أبطأ منه). ولقد تحققت ظاهرة انكماش الزمن علميا في معامل الفيزياء، حيث لوحظ أن الجسيمات الذرية atomic particles تطول أعمارها في نظر راصدها إذا ما تحركت بسرعة قريبة من سرعة الضوء. وعلى سبيل المثال، يزداد نصف العمر لجسيم البيون (نصف العمر هو الزمن اللازم لينحل هذا الجسيم إشعاعيا حتى يصل إلى نصف كميته) في الساعة المعملية الأرضية إلى سبعة أمثال قيمته المعروفة إذا تحرك بسرعة قدرها 99 في المئة من سرعة الضوء.

وطبقا لنظرية أينشتاين، فإننا إذا تخيلنا أن صاروخا اقتربت سرعته من سرعة الضوء اقترابا شديدا، فإنه يقطع رحلة تستغرق خمسين ألف سنة (حسب الساعة الأرضية) في يوم واحد فقط (بالنسبة لطاقم الصاروخ) !! وإذا فكرت في زيارة أطراف الكون فإنك ستعود إلى الكرة الأرضية لتجد أجيالا أخرى وتغيرات كبيرة حدثت على هذا الكوكب الذي سيكون قد مر عليه حينئذ آلاف أو ملايين أو بلايين السنين بحساب أهل الأرض الذين لم يخوضوا معك هذه الرحلة المذهلة، وذلك إذا كنت قد تحركت في رحلتك بسرعة قريبة من سرعة الضوء...!! وخلاصة القول: إن الزمن ينكمش مع ازدياد السرعة، وتزداد السرعة مع ازدياد القدرة على ذلك.

هكذا أصبح من المقنع للماديين أن السرعة والزمن والقدرة أشياء مترابطة، ولكن إذا كان هناك مخلوق أقوى من الإنسان (ينتمي إلى غير الجنس البشري، كأن يكون من الجن أو من الملائكة) فإنه يتحرك بقوانين أخرى غـــير قوانين الإنسان، فيقطع المسـافات ويعبر الحواجز، وأشياء أخرى كثيرة لا يتخيلها الإنسان الذي يسكن كوكبه الأرضي. وطبقا للنظرية النسبية أيضا، فإنه إذا وجد كائن يسير بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فإن المسافات تنطوي أمامه وينمحي الزمن في قطعه هذه المسافات

وبالرغم من أن سرعة الضوء في الفراغ (أو الهواء) هي أعلى سرعة معروفة حتى الآن، فإن العلم الحديث لا ينكر وجود سرعة أكبر من سرعة الضوء في الفراغ، وإن لم يصل إليها حتى الآن، رغم سريان دقائق بيتا ( B - particles) في الماء بسرعة أكبر من سرعة الضوء فيه، لأن هذه الدقائق اخترقت حاجز الضوء في الماء فقط وليس في الهواء أو الفراغ، فتسببت في صدور إشعاع يدعى إشعاع كيرنكوف..!!

غيب وليست تحديا..!

وتابع غنيم قائلا: لقد أوردنا هذا العرض العلمي لكي نقرب للناس فهم إحدى المعجزات الحسية التي جرت لرسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، إنها «معجزة الإسراء والمعراج». ولسنا نسعى من وراء هذا العرض وما يليه من إيضاحات أن نثبت صدق هذه المعجزة، وإنما نريد فقط أن نقرب فهمها للذين يستبعدون حدوثها من غير المسلمين. وهذه المعجزة من الصنف الذي لم يجره الله بقصد التحدي (أي: تحدي البشر)، وأعجب ما في هذه المعجزة (بشقيها) أنها غيب من جملة الغيوب التي يجب على المسلم أن يصدق بها ويثق فيها مطلقا.

وهذه المعجزة إذا ناقشناها، فإنما نناقشها لإثبات استحالة وقوعها لبشر عادي، بكل المقاييس العلمية، أو حتى بتطبيق الفروض أو النظريات... وإلا لانتفت صفتها كمعجزة، ولأمكن للإنسان العادي أن يحققها عن طريق استخدامه لأي طاقات أو سبل يخترعها العلم بمرور الزمن.

والكلام في المعجزات الحسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجب أن نسرف فيه، بل لا يجب أن نعول على هذه المعجزات كثيرا في الإقناع برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنها معجزات وقعت وانقضت، وقد نهى رسول الله ذاته عن التعلق بهذه المعجزات المادية، وأمرنا بالانتباه إلى معجزة واحدة باقية على مر الزمان، هي القرآن الكريم، الذي تنكشف وجوه الإعجاز فيه كلما تقادم الزمن وتوالت الأجيال، وكل جيل يكشف عن وجه أو وجوه فيه لم يكن قد كشفها الجيل السابق... فقد حدث في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن انكسفت الشمس عندما مات إبراهيم بن رسول الله، فقال الناس: لقد انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال لهم الرسول: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته).

تشتمل « معجزة الإسراء والمعراج « ضمن ما تشتمل السرعة الخارقة والقدرة المذهلة التي انتقل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشق الأول من المعجزة، وهو « الرحلة الأرضية «، من المسجد الحرام بمكة (في الجزيرة العربية) إلى المسجد الأقصى بالقدس (في فلسطين)، ثم السرعة والقدرة اللتان لا يستطيع الإنسان - مهما أوتى من علوم وتكنولوجيا - أن يحددهما، وذلك في الشق الثاني من المعجزة وهو « الرحلة العلوية»، أي: الصعود من حيث انتهت الرحلة الأرضية إلى الأعلى في رحلة سماوية اخترق الرسول بها طبقات الجو كلها وعبر أرجاء الكون إلى سماء لا ولن يستطيع الإنسان أن يصل إلى تحديد أي شىء فيها، ولن يعرف عنها أي شيء سوى ما أخبره به القرآن الكريم.

الإسراء ( الرحلة الأرضية)

يقول الله سبحانه: « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هـو السميـع البصيـر (1) « [سورة الإسراء]. «سبحان»، أي: تنزه الله في قولـه عن كل قول، وتنزه الله في فعله عن كل فعل، وتنزه الله في صفاته عن كل صفات. «الذي أسرى»، أي: الذي أكرم رسوله بالمسير والانتقال ليلا. « بعبده»، أي: بمخلوقه الإنسان الذي اختاره لهذه المهمة العظمى، وهي مهمة هداية البشر جميعا. ولم يقل الله سبحانه: «بخليله» أو «بحبيبه» أو «بنبيه»، وإنما قال: «بعبده»، وفي هذا ملحظ هام هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقق مقام العبودية الخالصة لله سبحانه، فكان حقا «العبد الكامل» أو «الإنسان الكامل»، ولأن المطلب الأول للإسلام هو تحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه... «ليلا»، وفي هذا دلالة على أن الإسراء كان في جزء من الليل ولم يستغـرق الليل كله، وكان الليل هو وقت الرحلتين لأنه أحب أوقات الخلوة، وكان وقت الصلاة المفضل لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان هو وقت الصلاة قبل أن تفرض الصلاة بالهيئة والأوقات المعروفة عليها، وكان الإسراء ليلا ليكون أيضا أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب.

وأما قوله تعالى: «من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى» فتفسيره: أن انتقال الرسول في رحلته الأرضية كان بين مسجدين، أولهما: المسجد الحرام بمكة في أرض الجزيرة العربية، وهو أحب بيوت الله في الأرض، والصلاة فيه تعدل مئة ألف صلاة في غيره من المساجد، وثانيهما: هو المسجد الأقصى بأرض فلسطين، مهد الأنبياء والرسل، وقد كان القبلة الأولى للمسلمين قبل أن يأتيهم الأمر بالتحول شطر المسجد الحرام الذي هو قبلتهم منذ ذلك الوقت إلى آخر الزمـان... والمسجد الأقصى من أفضل مساجد الأرض جميعا، والصلاة فيه تعدل خمسمـئة صلاة في غيره من المساجد... «الذي باركنا حوله» أي: الذي أفضنا عليه وعلى ما حوله بالبركات، دنيوية ومعنوية... «لنريه من آياتنا» أي: بعض الآيات الدالة على قدرة الله وعظمته، وليس كل الآيات...

المعراج (الرحلة العلوية)

إن الكون الذي يستطيع الإنسان أن يبصر بعض أطرافه كونه فسيحا ضخما، بالرغم من أنه بكل ما يحتوي لا يمثل سوى السماء الأولى فقط، فلا نعلم ولا يعلم أحد مهما أوتي من العلم - إلا أن يكونه نبي أو رسول يتلقى الوحي - عن غير هذه السماء شيء، سواء كانت السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو... إلخ.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن فكرة الإله الذي يحتل مكانا محددا من الكون فكرة لا تتفق مع العقل الصحيح أو المنطق القويم، بل ربما نعتبر - نحن أهل الكوكب الأرضي - أناسا في سماء أخرى بالنسبة لمخلوقات غيرنا تعيش في كوكب أو مكان لا نعلمه نحن في مجـرتنا أو في مجرة أخرى من مجرات الكون الفسيح...!! إذا فالخالق العظيم، أي: الله الواحد المالك المدبر، له قوة مطلقة ولا يستطيع أحد أن يحدد له سبحانه مكانا أو زمانا، بل هو سبحانه موجود قبل أن يكون هنالك زمان أو مكان...

وقديمـا ذهب الناس إلى أن ما يرونه فوق رؤوسهم عبارة عن سماوات تسكنها الملائكة، ولكن العلم الحديث توصل إلى أن هذا ما هو إلا ظاهرة ضوئية تحدث في جو الأرض نتيجة لتشتت وتناثر ضوء الشمس الأزرق بوفرة فيه... وتوصل العلم الحديث بعد الخروج من الغلاف الجوي والتجول في الفضاء الكوني، أن الأرض ما هي إلا كوكب موجود في مجموعة تابعة للشمس، ولا يزيد سمك غلاف هذا الكوكب 1000 كيلومتر، بما فيه تلك «القبة الزرقاء» التي ظنها الناس قديما مسكن الملائكة، ولكنها ظاهرة ضوئية تحدث في طبقة من الغلاف الجوي للأرض لا يزيد سمكها على 200 كيلومتر...

والأمر الثالث هو أن تحول المادة إلى طاقة، ثم عودة الطاقة إلى المادة، هو أمر معلوم الآن بالكشوف العلمية الحديثة، وهو وإن كان أمرا نظريا، فإنه مستحيل التنفيذ عمليا. إذا: فإذا قلنا بتحول جسد الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو مادة - إلى ضوء - وهو طاقة - أو ما هو أعلى من الضوء، حتى يخترق آفاق الكون وما بعد الكون في ساعات قليلة بحسابنا البشري، فإننا بذلك نكون قد قدمنا اقتراحا لتقريب مفهوم الحدث، وإن كنا لا نجزم بما نقترحه. ولعل مما يدل على قصر مدة الرحلة بجانبيها - الإسراء والمعراج - هو ما رواه الرسول بعد عودته لأم هانئ - ابنة عمه - وما رواه لكل الناس بعد ذلك، ومن هذه الرواية أنه صلى العشاء مع أصحابه، ثم عاد وظهر وقت الفجر فصلى الفجر معهم... !!

الصعود وآلته

هذا مدخل ندخل منه إلى موضوع « المعراج «، وهو الصعود (أو آلة الصعود) من سطح الأرض إلى طبقات الجو العليا، إلى حيث الاختراق والنفاذ من أقطار الأرض وغيرها من الكواكب والنجوم، إلى حيث لا يعلم الإنسان حتى الآن. ولكننا نرى من الأفضل أن نعجل بقراءة آيات المعراج الواردة في القرآن الكريم، وهي الآيات التي لم تذكر «المعراج» صراحة، بل يفهم منها: «والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ما أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى(12)ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)» [سورة النجم ].

هكذا بدأت سورة «النجم» بالحديث عن معراج النبي صلى الله عليه وسلم، أي المعجزة العظيمة التي حدثت لرسول الله تكريما له، وقد رأى فيها عجائب صنع الله وغرائب خلقه في ملكوته العظيم الذي لا يحده حد. ولقد اقتضت حكمة الله أن يكون أول ألفاظ السورة جرم سماوي، أي: « النجم «، وهو إحدى الآيات الكونية التي خلقها الله، والله سبحانه يقسم بسقوط النجم أو أفوله أو انفجاره أو احتراقه، وهو قسم بشيء عظيم إذا فكر فيه الناس. وجاءت الآية الثانية لتؤكد لأهل مكة وقت تنزل القرآن بين ظهرانيهم أن رسول الله (أي: المبعوث فيهم) لم يضل ولم يختل ولم يزل، لأنه رسول مختار من قبل الله سبحانه، فلابد وأن ينطق الصدق ويقول الحق ويخبر بما رأى ويحكى ما سمع ويبلغ ما أمر أن يبلغه...

كيف يضل وكيف يزل وهو الأميـن على القرآن - كتاب الله - إلى الناس جميعا ؟ إنه الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يأتيه جبريل - عظيم الملائكة - به، ويقرئه إياه. وجبريل هذا هو ذو قوة شديدة، وذو حسن ونضارة، وقد «استوى»، أي: ظهر على صورته الحقيقية لرسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في «الأفق الأعلى»، فاقتربا وكادا أن يتلامسا، ولكن جبريل فارق الرسول عند موضع لا تتعداه الملائكة، وقال له: إذا تقدمتَ - أي: يا محمد - اخترقت، وإذا تقدمتٌ - أي: أنا - احترقت. وبعد عبور هذا الموضع تجلىً الله لرسوله محمد بالإنعامات والتجليات والفيوضات، وأوحى إليه وحــيا مباشرا، وكانت الصلاة المعروفة لنا هي ما أوحى الله به...

ولقد أقسم الله على أن ما يحدث به رسوله بعد عودته من هذه الرحلة هو الحـق والصدق وليس بالكـذب، لأنه لم يكذب قط طوال حياته... ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى لعظمة الله وقدرته المطلقة...

وعلى الرغم من أن «الإسراء» و«المعراج» حدثا في نفس الليلة (ليلة السابع والعشرين من شهر رجب قبل الهجرة بعام واحد)، فإن موضعي ورودهما في القرآن الكريم لم يترادفا، بل ذكر الإسراء أولا (في سورة الإسراء)، وتأخر الحديث عن المعراج إلى سورة النجم التي وضعت بعد سورة الإسراء (في ترتيب سور القرآن). وقد تكون الحكمة في هذا هي جعل الإسراء (وهو الرحلة الأرضية) مقدمة للإخبار بالمعراج، وهي الرحلة العلوية التي ذهل الناس عندما أخبروا بها، فارتد عن الإسلام وقتها ضعاف الإيمان، بينما ظل على الإيمان أقوياؤه.

لو قرأوا التاريخ لعرفوا..!

والمكذبون بهذا الحدث - قديما وحديثا - لا عقل مدركا واعيا لهم، لأنهم لو قرأوا التاريخ لعرفوا أن أحداثا قبل هذه الحادثة وقعت، منها مثلا حادثة نقل عرش بلقيس من اليمن إلى الشام في ملمح البصر، التي أشرنا إليها سابقا. فكيف بهم يكذبون رحلة الإسراء.. ؟! ولو أنهم قرأوا التاريخ لعرفوا أن أحداثا قبل هذه الحادثة وقعت، منها مثلا: رفع إدريس إلى السماء، ورفع إلياس إلى السماء، ورفع عيسى ابن مريم إلى السماء... وكلها أحداث قبل رفع رسول الله محمد بن عبد الله إلى السماوات العلى، ولكنه عاد بعد الرفع ولم يمكث كما حدث لهؤلاء الأنبياء والرسل... عاد ليكمل رسالته وينشر الهدى والحق والعدل في ربوع الكرة الأرضية.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هؤلاء المكذبين بـ «الإسراء والمعراج» لو أنهم قرأوا التاريخ لعلموا أن الأنبياء والرسل جرت على أيديهم المعجزات وخوارق العادات، وأوقف الله لهم القوانين الطبيعية والسنن الكونية، ليكون هذا وذاك أدلة على صدق دعواهم للناس. والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، منها النار التي ألقي فيها إبراهيم (عليه السلام) توقفت فيها خاصية الإحراق، وكانت بردا، بل وكانت أيضا «سلاما»، أي: أمانا... وانفلاق البحر لموسى (عليه السلام) حتى ظهرت اليابسة، وعبر موسى وقومه فرارا من بطش فرعون مصر الجبار الآثم... وانقلاب (تحول) عصا موسى إلى ثعبان ضخم ابتلع حبال وعصا السحرة فأخزاهم الله، وعلى التـو ثابـوا إلى رشـدهم وتحولـوا إلى الإيمــان واتباع موسى (عليه السلام)... وتسخيـر الظواهر الطبيعية لسليمان (عليه السلام) وكذلك الجن والدواب والحيوانات والطيور... وإحياء الموتى على يدي عيسى (عليه السلام)، وإخراج الطير من الطين على يديه أيضا... كل هذه وتلك معجزات وخوارق أجراها الله لأنبيائه ورسله ليصدقهم الناس ويتبعوا الهدى الذي جاءوا به...





تسلية وتعويض



المتأمل لما جرى في هذه الليلة المباركة يستخلص دروساً عظيمة منها: ربط رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم برسالة المرسلين جميعا، وهذا إيذانا بعالمية رسالته وخلود إمامته وانسانية تعاليمه، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ومنها تسلية الله تعالى لقلوب اوليائه عند المحن، ولهذا جاء الاسراء إثر وفاة ابي طالب وخديجة رضي الله عنها، وإثر ما لقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطائف من الأذى البالغ، فجاء الإسراء والمعراج ليكون تسلية له عما قاسى، وتعويضا عما أصابه ليعلمه الله عز وجل انه اذا كان قد أعرض عنك اهل الأرض، فقد أقبل عليك اهل السماء، ولئن كان الناس قد صدوك فإن الله يرحب بك، وإن الأنبياء يقتدون بك، إلى غير ذلك من الدروس المستفادة.





أولى القبلتين



للمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ بداية الدعوة. فهو يعتبر قبلة الأنبياء جميعاً، وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يتم تغيير القبلة إلى مكة. وقد توثقت علاقة الإسلام بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج، حيث أسري بالنبي، صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو مهاجر الأنبياء ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة على واجب المسلمين في الحفاظ على هذه الأرض المباركة وحمايتها من مطامع الأعداء، وفيه صلى النبي إماماً بالأنبياء ومنه عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء. ويعتبر المسجد الأقصى هو المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى».





الرائحة الطيبة



قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لما كان الليلة التي أسري بي فيها أتت عليّ رائحة طيبة فقلت «يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقط المدْرى من يديها فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون... أبي! قالت لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، قالت: أخبره بذلك قالت نعم. فأخبرته فدعاها فقال يا فلانة وان لك رباً غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله. فأمر ببقرة من نحاس - قدر كبير من نحاس بحجم البقرة - فأحميت ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها! قالت له: إن لي إليك حاجة. قال وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولْدي في ثوب واحد وتدفننا. قال: ذلك لك علينا من الحق. قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع وكأنها تقاعست من أجله! قال: يا أمه اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فاقتحمت!





ومضات



- أعظم معجزة جاء بها محمَّد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم؛ المعجزة الخالدة الَّتي لا يفنى أثرها، ولا ينقضي إعجازها، المعجزة الأم الَّتي كانت المعجزات الأخرى تابعة لها، ومنطوية تحت جناحها، وقد حوت معجزة القرآن فيما حوت بين ثناياها معجزة الإسراء والمعراج.

- لقد أكرم الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم برحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، وقد كانت انطلاقتها من المسجد الحرام في مكَّة المكرمة، وأوَّل محطَّة لها في المسجد الأقصى ببيت المقدس، بينما كانت آخر محطَّاتها سدرة المنتهى فوق السموات السبع وتحت العرش.

- عُرج بالنبي عليه السَّلام إلى عوالم السماء حيث شاهد ما لا يمكن لبشر أن يراه إلا عن طريق العون الإلهي.

- منح الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة عطاءً روحياً عظيماً، تثبيتاً لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس، وإنقاذ المجتمع من أوهام الخرافة والضلال.

- إن القدرة الإلهيَّة الَّتي خلقت هذا الكون الكبير، لن تعجز عن حمل بشر إلى عالم السماء، وإعادته إلى الأرض، في رحلة ربَّانية معجزة لا يدري كيفيَّتها بشر.





مَحَطَّاتٌ مهمة



تضمنت رحلة الإسراء والمعراج محطات مهمة يجب التوقف عندها والتأمل فيها في محاولة لفهم الغايات والأهداف السامية من وراء هذه الرحلة المباركة، ومنها:

1 - الإسراء رحلة إلى خارج الجزيرة العربية، وجَعْلُ المحطَّة الأولى في القدس بَدَلَ العروج من مكة مباشرة إلى السماء فيه إشارة إلى:

- عالَمية رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى قبل قيام الدولة بالمدينة المنورة.

- الصِّلة الوثيقة بين الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى فهو أُولى القبلتين.

- الرَّبط بين رسالات الأنبياء الموحِّدين - وكل الأنبياء مُوحِّدون - عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ لأن مُرسِلهم واحد.

2 - وعليه فالإسراء موسم سنوي لإعادة شحذ الهمم والعزم والعهد على الوفاء للمسجد الأقصى الأسير وكلِّ أرض فلسطين من البحر إلى النهر ولدماء الشهداء الشرفاء ما يعين على الثبات أمام الضغوطات الداعية إلى التنازلات.

3 - والإسراء والمعراج رحلة تكريمٍ وتثبيتٍ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد 12 سنة من البعثة مملوءة بالمشقَّات ختمت بالمقاطعة والحصار في «الشِّعْب»، ووفاة عمِّ النبي - مساندُهُ سياسيًّا -، ووفاة زوجته خديجة - مساندته نفسيَّاً -، ومواجهة أهل الطائف لدعوته بالحجارة...

4 - عظمة قدْر الصَّلاة؛ فقد شُرعت في السَّماء، وأجرُ الصَّلوات الخمس كأجر الخمسين، وكانت بمثابة هديَّة حملها معه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَّته من الرِّحلة، فهل يليق بنا أن نُهمل هديته؟!

5 - سَعَة وعظمة ملكوت السماوات والأرض ودقَّة نظامها يدُل على عظمة الخالق، وهو قادر على تغيير نظامها إذا شاء.

6 - الأنبياء عليهم السَّلام: إخوة متحابُّون وهم صفوة الخَلقِ، وسيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم خيرهم، وإمامهم في الوقوف بين يدي الله. وقد فرحوا بلقائه فاستقبلوه بقولهم: «مرحباً بالنبي الصالح، والأخ (أو والابن) الصالح».

7 - أهمية النصيحة وتبادل الخبرات وتقديمها ولو دون طَلب؛ كما نصح سيدُنا موسى سيدَنا محمداً عليهما الصلاة والسَّلام بطلب تخفيف الصلوات.

8 -خطورة التقليد في الاعتقاد والتَّدين، وأهمية التوثّق من صحَّة المعتقدات بالدليل واليقين؛ كما يستفاد من ارتداد بعض ضعاف الإيمان يوم الإسراء.

9 - يَجْدُر بصاحب القيم والمبادئ السَّامية أن يواجه الإشاعة في مَهْدها ولو صاحبَها الاستهزاء؛ كما ثَبَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تحدَّوه أن يصف بيت المَقْدس فكشفه الله له فوصفه لهم وأقام الحجة عليهم ما اضطر من فيه ذرة إنصاف إلى الإقرار بصدقه!

10 - إذا كان ملائكة السماء وحُرَّاس أبوابها يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم وفَضْلَه ويفرحون باستقباله، فما بالُ بعض أهل الأرض يجهله، أو يتجاهله ويُعرض عن هَدْيه وسنته؟!