مقال / لا ميْتٌ ولا حيٌّ!
1 يناير 1970
08:28 م
| إبراهيم صموئيل |
اقتلاع الناس من بيوتهم، تشريدهم، تهجيرهم عنوة، وبدفع من الخوف والرعب على حيواتهم، فيه من الوجع والأسى والإهانة ما ليس في الجوع والمرض والفقر. في الجوع يتدبّر الناس حاجاتهم العضوية إلى الطعام، يأكلون ما تيسّر فتمتلئ معدهم على نحو ما، ويسكت نداء الطبيعة. في الفقر يتدبرون أيضاً. يشطبون التزيّد والتطلّب. في المرض يستسلمون إلى إرادة أعلى منهم، يأملون بالعلاج والاستطباب حلول العافيةَ.
ليس مؤدى ما سبق أن الحياة حلوة أو مقبولة مع الفقر والجوع والمرض. ثمة عذابات معروفة بقساوتها وإنهاكها للبشر وإسباغ التعاسة على حيواتهم. غير أن اقتلاع الناس من بيوتهم أشبه باقتلاع الأشجار من جذورها. إزاحة القطار عن سكته، رفع السفن من الماء إلى اليابسة. في التهجير ثمة ما يُميت الناس من دون أن يموتوا! هم، في الأصل، فرّوا إما من كوارث طبيعية أو من حروب ونزاعات وقتل. يهربون من القتل ويتشردون في أصقاع الأرض، لكنهم لا يموتون، وفي هذا ربما تكمن مأساة حيواتهم التعسة.
فإذا كان الموت قتلاً هو الفاجعة الكبرى التي يواجهها البشر في الحروب والنزاعات، فإن «الحياة» في المنافي موت يومي يشهد عليه صاحبه ويشاهده ويعاني منه باستمرار! في الموت قتلاً خلاص للمقتول من رعب يحلّ في حياته وينكّل بها. «راحة» لنفسه هو، وإنْ يكن موته عذابات مريرة لأحبائه وأهله. آلام مبرحة لا تُنسى لسنوات. جرح ينزف وينزف دون أن يلتئم.
في التهجير والتشريد يعاني المهجَّر والمشرَّد من موت يرافقه على مدار الساعة، ومع كل شهيق وزفير. يعاني من أن الأرض التي يقف عليها ليست أرضه، والناس حوله ليسوا شعبه وناسه. بل هو نفسه لا يعود هو. يصير اسمه لاجئ! مهما كسا اسمَه وزيّنه في المنافي فإنه لا يستطيع، بحال، تغيير جوهره: لاجئ! يُعامل كلاجئ، يُنظر إليه على أنه كذلك. ومهما بولغ بالاحترام له يبقى ما يحزّه ويجرّحه ويذكّره بصفته وحاله باستمرار.
لندع المُهجًّرين عنوة، المطرودين، المشردين رغماً، ولننظر في حال المهاجرين بإرادتهم والمنتقلين من بلدٍ إلى بلدٍ بمحضّ اختيارهم. قد يلذ لهم العيش وتطيب الإقامة بل وينال العديد منهم جنسية البلد المُختار. يمكثون ويقيمون في البلد لسنوات وسنوات، غير أن واخزاً لا يكفّ عن وخز استقرار عيشهم، والتنغيص على حياتهم: الحنين!
النباتات «تحنّ» إلى تربتها ومناخ نشأتها. الحيوانات «تتوق» إلى مواطنها الأصلية، فإن لم تتم العودة بها إلى مواطنها ومطارحها في البر والبحر تذبل يوماً بعد يوم، وتنفق. بعد عشر سنوات أو عشرين من الغربة والعيش في المهجر (طوع الإرادة والاختيار) يعود المهاجر إلى بلده ليقبّل ترابه، يملأ رئتيه بهوائه، ويبكي أسى على ما فاته!
ما حال المُهجَّر عنوة، المُقتلع غصباً، المشرَّد رغماً عنه تحت وابل الحرب والنزاعات التي تحلّ ببلاده، وتحيق بحياته وحياة أبنائه؟! ما حال من حملوا أبناءهم وفرّوا بهم، لا يلوون على مطرح أو مكان بعينه، بل يهربون فحسب؟ في دقائق قليلة جداً جراء قصف لمنازلهم يفزعون إلى أي أرض، إلى أي مأوى، إلى أي منجى بألبستهم التي تكسي أبدانهم، وبذعرهم الحارق والمريع!!
يعيشون... بلى! يأكلون ويشربون ما تيّسر لهم.. بلى! وينامون على ما أُتيح لهم وتوافر من بُسط وفُرش متهرئة... بلى! لكنهم لا يحييون أبداً. لا يحييون ولا هم يموتون! يظلون معلّقين، متأرجحين، ما بين الحياة والموت. لا هم من الأحياء ولا هم من عداد الأموات، يصبح الواحد منهم حيّاً يشهد على موته ويشاهده. يصير غريباً، في أرض غريبة، وعيش غريب، وهواء غريب، وحتى تحت سماء غريبة!
لو مات المُهجَّر المنفي لكان أهون عليه، لكنه يبقى ميتاً لا يحيا وحيّاً لا يموت!