مقال / بغداد... العراق ألم ورجاء
1 يناير 1970
05:22 ص
| بقلم: العلامة السيد هاني فحص |
عام 1968 كانت بغداد القلقة... ولكنها حية ومصرّة على ما تبقى لها من حرية... قد تمت مصادرتها ومعها العراق كله... فقال نزار قباني في مطلع قصيدته في مهرجان الشعر العربي في بغداد:
«مرحباً يا عراق... جئت أغنيك... وبعض من الغناء بكاءُ».
في ربيع العام الفائت كنت في طريقي أواسط ليل عراقي لا يمل من انتظار الفجر، مع مسؤول كبير سابقاً وأصيل وقائد ومناضل ومثقف ونقي ذهناً وذاتاً... من النجف أحد مقامات الضمير التاريخية العراقية الذي كان يقظاً دائماً، ولكنه هذه المرة ممنوع ومحاصر بالأبناء لا الأعداء... ومن هنا يتفاقم وجعه... الى بغداد التي قامت على العلم ليقوم عليها ويقيم فيها العلم، وتصبح منارة التاريخ حضارة وثقافة وشراكة معرفية وعمراناً، يحْرسها دجلة، وتحرسه، ذاهباً الى لقاء الفرات في شط العرب، الى وحدة المجر، على ذكريات المنبع، وتتواكب الشعوب والحضارات والإبداعات في الشعر والتشريع، من صولون وحمورابي الى مدرسة الكوفة والصادق والنعمان وجابر بن حيّان والحسن ابن الهيثم والكندي والمتنبي وجامعة البصرة والخليل وسيبويه وواصل والحسن، ومن غلغامش وأنكيدو الى السياب والجواهري... ومن مدرسة الحكمة الى النظامية، الى شارع المتنبي الى سهل نينوى وتلكيف وعقرة ولالش وتلعفر،... ومن المدائن الى أربيل وجبل قنديل وسرمن رأى... الى أور وبويب والأهوار... مدن ومدائن نخيل تطرح رطباً وأدباً... وتتلقى تكراراً التدمير والإبادة واصطباغ ماء دجلة والفرات، بالدم المراق مرة، وبحبر الكتب والدفاتر والمحابر المهرقة مرة أخرى، ثم تقوم من رمادها كطائر الفينيق.
وتطلع بغداد وأخواتها من مقابرها الى محابرها، ومن دمها الى دورها ومن حصارها الى فضائها... مرة ومرة... والف مرة.
غير أننا الآن أشد خوفاً عليها... فلماذا؟ أليس لأن القسمة كانت تأتيها من الخارج فتنقسم، تخطئ تستباح، فتصحو وتلتئم... وهذه المرة... تأتي قسمتها من داخلها، الذي انقسم، فصارت وحدتها، وحدة العراق حولها ومن شرفتها، وكأنها موقتة وعابرة؟
ألهذا لم أرَ بغداد جميلة كما كنت وكنا نراها؟
عندما داهمني هذا الشعور... الذي يقترب من الحقيقة، وأسأل الله ألا يكون حقيقة... لم أجد له علاجاً، إلا أن أرخي عيني في صدري، على طريقة الحلاج، ابن بغداد الشهيد، وارسل قلبي وذهني الى ذاكرتي... لأعود الى بغدادي أنا العربي اللبناني المتبغدد لألف سبب وسبب... الى بغداد الستينات... وكأنها بقية بغداد العظيمة، وتملك كل الأسباب والاستعدادات لتتذكر وتحلم وتنهض... وكان ما كان... وانقصفت أحلامنا بالاستقواء والاستيلاء على السلطة الضعيفة (68) على إيقاع النكسة (67)... وأخذنا نسلي النفس ونعزيها بما تبقى من علامات جمال ووعود عراقية... وبغدادية... ثم كان ما كان بعد الألفين من ولادة لحرية كانت مرصودة من لحظة ولادتها بخطر استخدامها لإنتاج استبداد آخر ولكن ذلك لم يمنع من استمتاع الجوعى الى الحرية، بها، على مغص شديد جداً... فقلنا: حسناً هذه الحرية قد تعيد نظمنا في مجتمع وطني على دولة وطنية ولكن بدا وكأننا، أو (لأننا)، أدمنّا الاستبداد المركزي والمركز، قررنا أن نقيم استبداداتنا الفرعية، على الدين أو المذهب في وجه الله وضد الدولة... مكانه... لنثبت مرة أخرى، أن الديموقراطية ليست كمية من الحريات، بل هي نظام حريات... وأنه يمكن بسهولة أو صعوبة إسقاط المستبد... ولكن الأصعب هو إسقاط نظام القيم الاستبدادية وقيم الظلم والفساد والتخلف، التي قد يرثها المظلوم، أو المظلومون من الظالم فيظلمون بعضهم بعضاً... ويظلمون بغداد والعراق وغيرها وغيره.
لا... لا أيها الأحبة في العراق وخاصة عصافيره الصغيرة... أقدر لنزار قباني حساسيته وشعوره العميق بالألم... ولكني أعالج غضبي وإحباطي ويأسي، «بالأمل والرجاء والصبر والثقة بشعب العراق، وأردد من مطلع قصيدة مصطفى جمال الدين:
«بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر إلا ذوت ووريق عمرك أخضر».
وأتفهم الحزن الغاضب الذي بدا في عينيْ ووجه رفيقي ليلاً الى بغداد، الذي تنهد وقال: لم تعد بغداد جميلة إلا في الليل، أي وهي منقبة فإذا خلعت نقابها ظهر لمن يعرفها أنها فقدت جمالها... ثم علا صوته وقال: لا... أنا أعرف مواطن جمالها الذي لا يمكن تشويهه.
أهدأ الآن... وأدعو الى الهدوء... وأدعو الآباء والأمهات من الجيل الجديد أن يقرأوا ويعلموا أولادهم شعراً عراقياً معانداً ومغذياً ولقاحاً ضد اليأس.
يقول السياب «في الضفة الأخرى...يكاد العراق... يومئ يا أهلاً بأبنائي، إنا مع الصبح على موعد رغم الدجى يا عراق».
ومن الجواهري:
«سلام على هضبات العراق وشطيْه والجُرف والمنحنى
على النخل ذي السعفات الطوال على سيد الشجر المجتنى
دجلة تمشي على هؤْنها وتمشي رُخاء عليها الصّبا»
ومنه:
«جرى ثائراً ماء الفرات فما ونى عن العزم يوماً موجه المتدافعُ
حرام عليكم وِرْدُه ما تزاحمت على سفحه تلك الوحوش الكوارع»
«كما فرق الشمل المجمَّع حادث فقد يجمع الشمل المفرَّق جامع»