| كتب علي العلاس |
في كل مراحل التاريخ الكويتي المعاصر المتقدم كان موجودا. وفي كل تاريخ العمل العربي لحقوق الانسان كان موجودا. وفي كل عمل قومي حضاري كان موجودا. وفي كل مراحل تاريخ الكويت المعاصر المتخلف كان معترضا. وفي كل انتهاك عربي لحقوق الانسان كان مقاتلا من اجل احترام الحريات والديموقراطية. وفي كل عمل قومي غوغائي كان منسحبا منتقدا محذرا من النتائج. ولو قُدر له أن يكون موجودا اليوم، فمن المؤكد ان مواقفه لن تختلف عما سبق، في النضال الوطني والعربي، في الحراك الشعبي والشبابي، في الانتصار للمبدأ، وفي الانحياز للحرية والديموقراطية.
العم جاسم القطامي، خسرته الكويت رمزا من رموزها ومناضلا من رجالاتها الذين حفرت مواقفهم وسيرتهم في ذاكرة التاريخ.
أقل من 6 أشهر مضت على رحيل العم أبو محمد، رحل في زمن لعله كان الأحوج ليكون موجودا وسط الحراك السياسي الكويتي اليوم، ويكون من المبادرين في نصرة الشعب الفلسطيني، وأول المنتصرين للمطالبين بالحرية والديموقراطية في العالم العربي.
ولأن المواقف تحفر في ذاكرة التاريخ، لا يمحوها نسيان ولا مرور زمان، كانت الأمسية التي نظمتها جمعية الخريجين مساء أول من أمس بعنوان «جاسم القطامي.. رجل ما فقد ظله» اصدق تعبيراً عما تركه الرحال من رصيد المبادئ والمواقف التي تنير درب من سيكملون المسيرة بعده.
تحدث الكثيرون، من الكويت وخارجها، حاولوا الحديث عن الصفات التي تحلى بها الراحل، ومدح المواقف التي اتخذها، والإشادة بالمبادئ التي كان ثابتاً عليها، لكنهم أجمعوا على أن الكلام بحق قامة شامخة جسدها العم القطامي لا يفي الراحل حقه.
الأمسية التي شهدت مشاركة حاشدة كويتية وعربية، تضمنت معرض صور لأبرز محطات حياة الراحل، لعل أبرزها الاستقالة التي خطها عندما كان مديرا للشرطة الكويتية رفضا لقمع المتظاهرين وانحيازا للشعب في نضاله العربي.
وتقدم الحضور رئيس مجلس الأمة السابق جاسم الخرافي، والنواب السابقون عبدالله الرومي ومرزوق الغانم وصالح الملا ومحمد العبدالجادر، والوزير السابق أنس الرشيد، وعائلة الراحل، وحشد من كبار الشخصيات والفاعليات.
واستذكر المتحدثون المواقف الوطنية والعروبية للراحل، معتبرين إياه رمزا للفداء والتضحية من أجل تحقيق حلمه العروبي، مشيرين إلى مواقف الفقيد الراحل سواء على المستوى الكويتي أو العربي، ومعددين إسهاماته البارزة في مجال حقوق الإنسان لا سيما أنه لم يعبأ ولم يحسب أي حساب لأي مواقف كان يتخذها طالما كانت تتوافق مع مبادئه التي نشأ عليها.
واعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت الدكتور غانم النجار المناسبة «احتفاء لا تأبينا للراحل جاسم القطامي لما قدمه من مواقف لوطنه وأمته العربية والإنسانية جمعاء»، مضيفا: «إذا كان هناك من يقول ان سقف الكلام ارتفع اليوم فإن الفقيد الراحل كان من أوائل من رفعوا السقف عاليا في عام 1959، ودفع نظير ذلك كثيرا من الأثمان التي لا يمكن للواحد منا ان يحسبها».
واستذكر النجار موقف القطامي «الرافض لقمع المتظاهرين الذين خرجوا يهتفون ضد العدوان الثلاثي على مصر»، لافتا إلى أن الفقيد آثر الحفاظ على مبادئه مقابل تخليه عن منصبه الذي كان يشغله في تلك الفترة وهو مدير عام الشرطة، مستحضرا نص كتاب استقالته من منصبه الذي قدمه للشيخ صباح السالم: «كان بودي الاستمرار في عملي مديرا لشرطتكم الموقرة، بيد أن اختلافي مع سموكم (هو) في مسائل تتعلق بمستقبل الشعب وبحريته وكرامته، ومع أنني لا أستطيع أن أحارب هذه الأفكار التي أنا شخصيا مؤمن بها ومستعد للتضحية بالنفس والمال في سبيل استمرارها وبلوغها ما تصبو إليه، لهذا أرجو قبول استقالتي والله يحفظكم».
وقال «نحن لا نتحدث هنا عن شخصية سياسية عادية، وإنما نتحدث عن ظاهرة مهمة أثرت في حركة التغيير، فالراحل كان صادقا مع نفسه قبل ان يكون صادقا مع الآخرين، وما قام به وصحبه من فعل يلزم الجميع الإقرار به، فإن كان هناك عطاء للحراك الشعبي فإن الفضل يعود في جزء كبير منه للفقيد الراحل وأمثاله».
من جانبه، قال رئيس جمعية الخريجين سعود العنزي: «كيف لي أن أرثي قامة بحجم جاسم القطامي من دون أن أخشى تقصيرا في حقه ومكانته، هذا الرجل الذي طبع اسمه بمواقف يتقاصر دونها الكثير، قام بها حينما كان الصمت موقفا، فصدع غير عابئ بردود الفعل، وكان يكفيك ان تحتمي باسمه عندما يحتدم الاختلاف في الصف الوطني، حتى إذا كنت في صفه ضمنت الغلبة، لأن من عرفه كان يعلم جيدا كم هو واضح ودقيق وحاسم، لا يجامل في الحق صديقا او قريبا، ولا يتردد ثانية واحدة في إعلان موقفه، مشفوعا بكل حماس الدنيا للدفاع عنه».
وأضاف: «جاسم القطامي كان رمزا للموقف والنظافة والصلابة والحق، ليس لأننا نحب خلق الرموز وعبادتها، بل لأنه كان كذلك في كل تفاصيل حياته، رمزا سواء اتفقت معه او اختلفت، وعلى الرغم من كل هذه الصلابة كان إنسانا شفافا رقيق الإحساس يتمادى في تقدير الصغير قبل الكبير، حتى أن الواحد من أبناء جيلنا كان يخجل من لقائه في مكان عام، لأنه كان سيقطع حديثه مع من حوله ليعرفهم به بصوت عال: هذا من شبابنا اللي نفتخر فيهم».
واستعرض العنزي قصة تعارفه مع القطامي بالقول: «اتذكر أني التقيته في مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما كنت في جولة لجمع التبرعات للتجمع الطلابي الديموقراطي في أميركا، وكنت قلقا قبل اللقاء لأنني سأدخل على جاسم القطامي بصورته التي رسمتها في مخيلتي، وعندما دخلت عليه ارتبكت في البداية، فبادرني بالسؤال عن غالبية أعضاء الهيئة التنفيذية للتجمع، وإذا به يعرفهم واحدا واحدا».
واستذكر المواقف السياسية التي شارك فيها الراحل «وخصوصا في تلك الفترة التي تزامنت مع فترة الانقلاب الثاني على الدستور عندما حل المجلس عام 1986»، قائلا: «في تلك الفترة بدأت القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني تحركها لمقاومة ذلك الانقلاب، وكان من بين تلك الأنشطة ندوة اقمناها في جمعية الخريجين، وكلفت بإدارتها، وعندما وصلنا إلى تعقيب الجمهور طلب الراحل الكلمة، ودخل في صلب الموضوع غير عابئ بردة فعل أحد، وعلى إثر هذه الكلمة طلبنا انا ورئيس الجمعية حينئذ عبدالله الطويل إلى مخفر المرقاب للتحقيق معنا بتهمة سماحنا للراحل بالمشاركة والخروج عن عنوان الندوة من دون محاولة إيقافه أو منعه، ولكن فوجئنا ان الراحل كان هو الآخر مطلوبا للتحقيق، وعلمنا بعد ذلك ان ضابط التحقيق قدم له نسخة مكتوبة لما تطرق إليه في تلك الندوة طالبا منه الاعتراف بما تتضمنه ومن ثم تبريرها، فكان رده على الضابط: الظاهر ان موظف المباحث غير دقيق، لأنه لم يسجل كل كلامي وفاته الكثير مما قلت، لذا سأكتب لك الآن ما نسيه صاحبكم. حيث سطر بخط يده مرافعة أخرى ضد موقف الحكومة من الدستور والديموقراطية».
وعن علاقته بجمعية الخريجين، أشار العنزي إلى ان «علاقة الراحل تعود إلى زمن يسبق انتمائي إليها»، مبينا ان الراحل «كان يرى في الجمعية موقفه ومبادئه، فلم يكن يرد لنا طلبا للمشاركة أو دعوة إلى الحضور حتى في أصعب أيامه عندما أنهكه المرض، وحينما دعت الجمعية عددا من المهتمين لتأسيس اللجنة الكويتية للتآخي مع الشعب العراقي في فبراير 2003 كان القطامي ورفاقه اول الحضور وأكثرهم حرصا على نجاح اللجنة لرأب الصدع بين الشعبين الشقيقين».
وعلى الصعيد العربي، حيا وزير الإعلام المصري الأسبق محمد فائق جمعية الخريجين على دورها الفاعل في قضايا الأمة العربية، قائلا ان «هذه الجمعية العريقة التي جمعت العديد من الشخصيات الكويتية العظيمة التي استطاعت أن تؤدي دورها الوطني وفي الوقت نفسه تحمل هموم أمتنا العربية وتصبح فاعلة ومؤثرة عربيا كما هي فاعلة ومؤثرة وطنيا».
وأضاف فائق: «من أعظم هؤلاء الراحل الفقيد جاسم القطامي الذي اعتلى مكانة رفيعة في التاريخ النضالي لشعب الكويت، وذلك بكفاحه الوطني، مع عمالقة جيله أمثال الدكتور أحمد الخطيب وآخرين من أجل استقلال هذا الوطن وترسيخ أسس الحياة السياسية والبرلمانية»، مشيرا إلى ان «مواقف الراحل الوطنية الشجاعة وتضحياته من أجل الوطن جعلته رمزا للوطنية والتضحية في وطنه الصغير».
وأشار فائق إلى مواقف الراحل القومية، قائلا ان «مواقفه الشجاعة الواعية تجاوزت حدود وطنه الصغير لتملأ الدنيا من حولنا لتصل إلى كل ركن من أركان وطننا الكبير، فنحن في مصر لا يمكن ان ننسى موقفه عام 1956 الرافض للتصدي للمتظاهرين الذين خرجوا احتجاجا على العدوان الثلاثي في مصر، حيث كان يشغل وقتها منصب مدير عام الشرطة الكويتية والتي على اثرها قدم استقالته وانضم للمتظاهرين».
وبين ان «الراحل أولى القضية الفلسطينية دعما خاصا، فكان يدعم ويدافع عن الحقوق الفلسطينية بكل الطرق الديبلوماسية والمعنوية والمادية، ولم يدخر جهدا إلا وبذله من اجل هذه القضية التي اعتبرها قضية العرب المحورية»، مضيفا ان «هذا الفارس الشجاع استطاع في وعي كامل وقدرة فائقة ان يمزج بين هموم وطنه الكويت وقضايا أمته العربية ليبقي على الحلم القومي الكبير».
وذكر ان «الراحل أدرك جيدا ان العصر الذي نعيش فيه لم يعد فيه مكان للكيانات الصغيرة، حيث كان يدعونا لتوحيد قوانا وجهودنا لتكون فاعلة في هذا العالم الجديد، وذلك لأنه ادرك مبكرا برؤيته الثاقبة أن حقوق الإنسان أصبحت لغة العصر، وان احترام حقوق الإنسان وحق المواطنة هو الطريق الآمن والمدخل الصحيح للديموقراطية».
وتابع: «رغم ما تشهده مصر من أحداث جليلة، فمصر ثائرة وشعبها غاضب يخرج في الميادين والشوارع كل يوم احتجاج أو طل للحقيقة، رغم كل هذه الظروف حرصت على أن أكون معكم اليوم إكراما واحتراما وإجلالا للراحل العزيز جاسم القطامي».
وبدوره، قال الباحث العراقي عبد الحسين شعبان «إننا اليوم لا نجتمع لنعدد محاسن فقيدنا ومزاياه، فرجل مثل جاسم القطامي ليس بحاجة إلى المدح والإطراء، بل ان اجتماعنا دليل رغبة أكيدة في المراجعة والنقد والتقويم، نحن في أشد الحاجة إليها، لا سيما عندما نلتقي في حضرة الفقيد الراحل، تلك الشخصية السمحة الصلبة»، مشيرا إلى أن «الأسئلة كانت تتدافع على جاسم القطامي، مثلما هي الهموم والتحديات، لكنه لم ييأس أو ينكسر على الرغم من الاحباطات والهزائم، وهو المناضل الذي كان يرى بقلبه ما لا تراه العين أحيانا، ويعبر عنه بلسانه، وقد ارتضى بحكم الأصغرين وصارع وجادل بهما كل حياته، فالقلب عين العقل، واللسان هو الانعكاس لما في القلب».
وأوضح شعبان ان «الراحل تخطى الدائرة الكويتية التي ترعرع فيها ونمى وعيه الأول في خضمها إلى الدائرة العروبية، فقد كان فضاؤه ممتدا، ولعل أولى مجابهاته على هذا الصعيد كان احتجاجه على قمع التظاهرات الشعبية، ولم يكن يرضى إلا ان ينحاز إلى مصر وشعبها وهي تواجه العدوان الثلاثي بعد تأميم قناة السويس، كيف لا وهو الممسوس بالعروبة ورابطتها الإنسانية الوجدانية والطبيعية على أساس من التحرر والحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية والوحدة القومية».
ولفت إلى ان «الراحل لم يستطع أن ينزع جلده أو يتخلى عن خاصته العربية، حتى ان كانت ثمة صدمات وكوارث حلت بالفكرة العروبية النبيلة، وأدرك لاحقا، لا سيما بعد غزو قوات صدام حسين للكويت أن العروبة ليست أيديولوجيا، لأنها ستتحول إلى استعلاء وشوفينية، وستصبح استبدادا ودكتاتورية إذا ما صارت نظاما سياسيا».
وتابع: «رغم ان العروبة كانت إحدى حقائق الراحل التي لا تقبل الشك، وإحدى سمات شخصيته الجامعة، إلا انه بدأ يشك بالكثير من دعاتها الذين شوهوها، فتحولت لديهم إلى كذبة كبيرة وخرافة لا يقبلها العقل»، مستطردا «ان الجواب لم يكن يسيرا أو يأتي دفعة واحدة، انه القلق الانساني الذي واجهه الراحل وعدد من جيل الرواد العروبي، مثل أديب الجادر ومحمد فائق وفتحي رضوان ومنصور الكيخيا وخير الدين حسيب وعبدالرحمن اليوسفي وحيدر عبد الشافع وجوزيف مغيزل واحمد صدقي الدجاني وعصمت سيف الدولة وطارق البشري واسماعيل صبري ومحمد الرميحي وحسين جميل وسعاد الصباح وهشام جعيط وعلي اومليل واحمد الخطيب وعبدالله النيباري وعبدالله النفيسي ومحمد عابد الجابري وعبدالعزيز السقاف وآخرين بمن فيهم من اجتمع في (ليماسول) لتأسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان في عام 1983 بعد ان رفضت الدول العربية الترخيص لانعقاد مؤتمر حول ازمة الديموقراطية في الوطن العربي».
وذكر شعبان ان الراحل «انطلق في مسيرته الجديدة من الدائرة الانسانية الحقوقية، فأخذ يفتش في العالم عن الحق ليناصره، وهكذا تسلم بجدارة وعلى مدى دورتين رئاسة المنظمة العربية لحقوق الانسان في الوقت الذي كانت لا تزال فيه قضية حقوق الانسان تمثل إشكالية في عالمنا العربي، لاسيما من حيث التوجه والأداء والمعايير والمقاسات»، مشيرا إلى ان «الراحل رمى بكل ثقله في سنوات حياته الأخيرة في هذا الميدان لدعم التوجه الحقوقي والمهني الإنساني وأضعا رصيده المادي والمعنوي بهذا الاتجاه».
واستطرد: «ربما اعتقد الراحل ان عمله في ميدان حقوق الانسان هو اختصار أو اختزال لمشروعه السياسي الذي ازداد عمقا وشمولا مع مرور الأيام»، لافتا إلى ان «الراحل كان يرى نخبا واعدة، لا سيما من الشباب تنحاز إلى هذا الحقل الإنساني، الذي أراده نظيفا غير ملوث بطائفية أو تعصب ديني أو استقطاب سياسي أو تميز إثني أو عنصري أو امتيازات أو مصالح أنانية ضيقة».
وبدوره، قال الناشط الحقوقي البحريني عبدالنبي العكري «يجب أن تكون سيرة الفقيد الراحل نبراسا لتغليب المواقف المبدئية وتطويرها وتجديد دماء الحركة الوطنية والقومية والحقوقية»، مبينا «ان الراحل جسد الوطنية الكويتية عندما كان عسكريا وعندما كان نائبا في مجلس الأمة، وكذلك عندما قاطع الانتخابات لما اقتضت ذلك الضرورة».
وأوضح ان «الراحل كانت له مواقف بارزة منها رفضه مبدأ التطبيع مع الكيان الصهيوني ودعم القضية الفلسطينية، كما كان له دور بارز في المطالبة بحقوق المرأة الكويتية السياسية ورفضه للتمييز بين أبناء الوطن».
وعن دوره في مجال حقوق الانسان، قال العكري «كان في طليعة من بادروا في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان في وقت كانت فيه تلك الحقوق بدعه غربية».
استقالة القطامي من إدارة الشرطة
كان بودي الاستمرار في عملي مديرا لشرطتكم الموقرة، بيد أن اختلافي مع سموكم في مسائل تتعلق بمستقبل الشعب وبحريته وكرامته، ومع أنني لا أستطيع أن أحارب هذه الأفكار التي أنا شخصيا مؤمن بها ومستعد للتضحية بالنفس والمال في سبيل استمرارها وبلوغها ما تصبو إليه، لهذا أرجو قبول استقالتي والله يحفظكم.< p>
< p>