مشاهد / لويس عوض

1 يناير 1970 09:48 م
| يوسف القعيد |

لا أعرف ولا أتذكر أين ومتى رأيت لويس عوض للمرة الاولى؟ وإن كنت أتذكر جيدا اللقاء الأخير معه، وكان في مستشفى مصر** الدولي الكائن في ميدان فيني بالدقي، وكنت قد ذهبت مع جمال الغيطاني، هو يريد زيارة مصطفى أمين، وأنا أرغب في زيارة لويس عوض، وقد قمنا بالزيارتين معا، ذهبت معه إلى مصطفى أمين، وجاء معي إلى لويس عوض الذي كان في أيام مرضه الأخيرة، وأيضا كان مصطفى أمين في أيام المرض الذي أسلمه إلى الموت، وإن كان مصطفى أمين حكاية أخرى غير لويس عوض تماما، جمع بينهما المستشفى الواحد وفرقت بينهما الأفكار والمواقف وسبل وتجارب الحياة.

عندما مددت يدي وفتحت الباب على لويس عوض انبعثت من الغرفة رائحة ما، ربما كانت رائحة عقاقير وأدوية، أو تأثيرات السرطان في جسده، وكان شعره قد بدأ في السقوط، وكان بجوار السرير علبتان، واحدة فيها شيكولاتة، والأخرى سيجار، وأنا لم أشاهده من قبل يدخن السيجار، كان يدخن السجائر المصرية العادية، وكان غزير التدخين، لدرجة أن نهايات أصابعه كانت صفراء دائما وأبدا، كنت قد كتبت في المصور قبل الذهاب إليه عرضا لمذكراته، وكان هو سعيدا بهذا العرض، لدرجة أنه قال لي: انك أقمت لي قداسا على صفحات المصور، وكرر كلمة قداس أكثر من مرة.

كان في علاقته بجمال منطقة من الغموض، وكان معي على سجيته، أذكر مرة أن جمال قام بعمل حملة في صفحة أخبار الأدب بجريدة الأخبار عن التصنيف السياسي للأدباء، انزعج لويس عوض من الحملة، واعتبرها مؤامرة، لأنها تمنعه من القول عن نفسه انه يساري وأن الحملة قد تمنعه أيضا أن يقول عن كاتب مثل ثروت أباظة أنه رجعي، ولذلك كان ضد الحملة، مع أن هدف جمال من وراء إثارتها كان مواجهة الذين يصنفون الأدباء بهدف منعهم من الكتابة والنشر عنهم.

قلت للويس عوض إن المسؤولة السابقة عن الصفحة كانت تصف الأدباء والكُتاب على أساس سياسي، وتمنع وتمنح على هذا الأساس، قال لي لويس: ولو، إن هذا الطرح مضر، لأنه يعفي اليساري من القول بيساريته، وأيضا يمنعني من القول ان هذا الكاتب يميني، وتلك مسألة أكثر من هامة.

من المؤكد أنني لم أر لويس عوض في مبنى الأهرام القديم الذي كان في باب اللوق، وجري هدمه اخيراً ومكانه أرض فضاء الآن، لقاءاتي معه في الأهرام أقل من القليلة، وفي إحداها أجريت معه حديثا صحافيا طويلا نشر في المصور، وكان يحضر إجراء الحديث شاب يعمل في الأهرام في وظيفة إدارية، وأتذكر أن زوجته كانت تعمل سكرتيرة لصلاح الدين حافظ، عرفت هذا من حوار جرى بينه وبين لويس عوض، وكان سبب حضوره إجراء الحديث أنه كان يُعِّد رسالة جامعية ربما كانت ماجستير عن لويس عوض.

أما خارج الأهرام فقد تلاقينا أكثر من مرة، من هذه المرات عندما باع عزبته في الفيوم، قال لي يومها إن الفيوم مزرعة للإرهاب والتطرف، وأنه تعرض لمضايقات وسرقات هناك:

- ثم أن لي- أكمل لويس عوض- ضيوفي الذين يذهبون إلى الفيوم، ربما يتعرض أحدهم لاعتداء ما، كان يعتقد أن مجرد وجود عزبة له في قرى الفيوم ربما أدى لمأساة ما، المهم باع العزبة واشترى شقة كانت تطل على شارع الهرم، وكانت قريبة من مطعم أندريا، الذي كان يحب تناول الغداء فيه، وكان الغداء ثابتا: نصف دجاجة مشوية، والسلطات وزجاجة من البيرة ستلا، من الحجم الكبير الذي اختفى ولم يعد له وجود الآن.

دعاني للغداء أكثر من مرة، وفي أول مرة ذهبت معه إلى أندريا، حكي لي قصة المحل منذ أن كان صاحبه يمتلك عربة تقف في المكان، أشار إلى شجرة في مدخل المحل، وقال إن العربة كانت تقف تحت الشجرة، وأكد لي أنه زبونه منذ تلك الأيام، كان يحضر إليه من قلب القاهرة، كان مشوارا طويلا، يقطعه في الذهاب والعودة، وقت أن كانت المريوطية من ضواحي القاهرة.

قلت له:

- إدوار لين يصف في كتابه: المصريون المحدثون عاداتهم وشمائلهم، رحلته من القاهرة إلى الأهرامات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي استغرقت يومين في الذهاب، ومثلهما في العودة، وأنه استأجر حميرا ودليلا وحارسا من أجل الرحلة.

أكمل لويس عوض حكايته وكأنه لم يسمع ما قلته، قال لي:

- إن صاحب المحل مات، والورثة هم الذين يعبثون بالاسم هناك، تجد فرعا في المقطم وآخر في الإسكندرية، ثم إن الطامة الكبرى ان هذا المحل الأساسي قرر أن يتوسع، وأن يكون توسعه على شكل افتتاح محل للسمك في المكان.

توقف وتساءل:

- سمك؟!

قالها بعصبية مبالغ فيها.

كان لويس عوض ثوريا في تفكيره، ولديه قدر هائل من الخيال الإنساني، وقدرته على التحليق لا خلاف حولها، ولكنه كان في السلوك الاجتماعي تقليديا بصورة غير عادية، لم يكن وحده على هذا الحال، كان سلوكه جزءا من ثنائية المثقف، عرف المحل بصورة قديمة ويصر أن يبقى عليها إلى الأبد، ويرفض أي تغيير يمكن أن يدخله عليه أصحابه، حتى لو كانوا ورثة صاحبه الأصلي.

بل إنه كان يعتبر أي تطوير أو تغيير بمثابة نسف لفكرة المحل الذي يحبه، بعد تناول الطعام لم يكن من عادية غسل يديه، كان يجففها في مناديل ورقية، بدأت تغزو الحياة، ونجدها في كل مكان، مع أنني لا أحب التخلي عن المناديل القماش التي أستخدمها، بينه وبين الماء جفوة ما، مع أن الماء من وجهة نظري أصل الحياة، لدرجة أنني عند التعب الشديد، «أطس» وجهي بقليل من الماء، فيروح التعب وأشعر بحالة من التجدد والحيوية كأنني إنسان جديد.

بعد الغداء ذهبنا إلى مكتبه، كان سعيدا به من دون حدود، وفي المكتب الذي كان في حقيقة الأمر مكتبة، أكثر من كونه مكتبا، كان قد نسَّق وضع الكتب، وكانت لديه مكتبة موسيقية نادرة، أهم السيمفونيات العالمية كما عزفتها أشهر فرق العالم، سمعت معه بيتهوفن، أعتقد أنها كانت السيمفونية التاسعة التي تسمع فيها ضربات القدر.