مقال / أبناء الشارع: آباؤه !

1 يناير 1970 07:03 م
| إبراهيم صموئيل |
حين ينزل المصريون إلى ميدان التحرير للتظاهر بل والاعتصام أيضاً، ويتكرر المشهد عينه الذي كان لثورة 25يناير، وتتكرر العبارات التي رفعها المتظاهرون أثناء الثورة مثل: الشعب يريد إسقاط النظام، وارحل! لا تكون مصر إزاء أزمة سياسية وإنما إزاء حدث كبير وخطير بكل تأكيد!
لا أنوي، هنا، المساهمة في النقاش حول الإعلان الدستوري والجدل الذي يعمّ مصر كلها، شعباً وأحزاباً وقوى سياسية، فأهل مكة ـ دائماً ـ أدرى بشعابها، وإنما رغبت في تأمّل الحدث الجلل هذا من زاوية أخرى غير زاويتيّ الانتصار للإعلان الدستوري الذي أصدره رئيس مصر، أو معارضته وفقاً لإعلان المتظاهرين في ميدان التحرير ومعهم قوى وأحزاب عديدة وشخصيات معروفة في حقول الأدب والفن وغيرها.
أردت، هنا، التأمل في ثورة 25يناير، وكيف صار لها أن تُنهي، مرة واحدة وأخيرة، مبدأ الاستئثار في القرار والحكم. كيف بات القرار، بعد الثورة، قرار الناس والشارع والميادين والقوى والهيئات والجمعيات وما إلى ذلك. أوضح رئيس مصر أسبابه ودوافعه لإصدار الإعلان الدستوري، وشرح رئيس الوزراء والعديد من المسؤولين في الحكومة، وكذا العديد من قادة حزب الحرية والعدالة موجبات الإعلان الدستوري وضروراته الاستثنائية، مبيّنين أنه موقت، وأنه لا يهدف إلى إلغاء السلطات الثلاث المعروفة... الخ غير أن الشارع المصري، بالمعنى العريض والعميق لكلمة الشارع، قال: لا!
من فورهم، نزل أبناء مصر، ونزل معهم قادة ورموز الأحزاب والقوى، ونزل العديد جداً من الناشطين السياسيين ورجال القانون والقضاء والكتّاب والمفكرين والفنانين من مختلف الألوان والأطياف والاتجاهات الفكرية والسياسية ليقولوا: لا!
هل عين الصواب في موقف هؤلاء، أم عينه في قرار رئيس الدولة وموقف المسؤولين الحكوميين؟ الجواب مرة أخرى: لأهل مكة كلهم من دون استثناء، لشعب مصر كله من دون تمييز ومفاضلة، وللتوافق بين أبناء الشعب من كل أحزابه وقواه واتجاهاته ورموزه وممثليه... الخ، وسوى ذلك، فقد حسمته الثورة مرة واحدة وأخيرة. حسمت أمر الهوة الرهيبة التي كانت، قبل الثورة، بين الرئيس والمرؤوس، بين الحاكم والمحكوم، بين مَنْ في القيادة ومَنْ في القواعد من عامة الشعب. ألغت الثورة، أو هي في مراحل الإلغاء، زمن وعصر الراعي والقطيع. ما من أحد بعينه، حزباً كان أم جماعة، أم قوة سياسية، يمكن له أن يستأثر بالقرار والسلطة.
لا استئثار... قالت الثورة!
فنحن هنا، قال الشعب ويقول اليوم، ونحن مَنْ يقرر مصالحنا ومصائرنا. ببساطة: نحن القرار! وإنْ شاءت اللغة تسميتنا «أبناء» الشعب فليس معنى ذلك أننا قاصرون، ودون السن القانونية للرشد والبلوغ، وأن «الأب» هو المسؤول عنّا، وهو مَنْ يقرر لنا الصالح من الطالح!.
لا استئثار- قالت الثورة- لأن آفة الطغيان والظلم تكمن في الاستئثار والانفراد. آفة الفقر والتخلّف والقهر في قرارات لا يمكن الطعن عليها. تحصين القرار ضد الطعن عليه هو المقتل: من دائرة الأسرة الصغيرة إلى مساحة الوطن الكبيرة. انتهى زمن المزاج! بل وانتهى ـ حتى للراغبين في حصر الحكمة ـ عصر الحكيم الراشد الأوحد!
ما يحدث في مصر الآن، يرفع عالياً مَنْ كان في القاع، والصفوف الخلفية، والعتمة، والهامش، والتهميش. مؤدى ما يحدث في مصر الآن يكمن في معنى جوهري، أساسي، لطالما ظل مضيّعاً، ومغيّباً، ومحجوراً عليه: أبناء الشعب الآن هم آباؤه الشرعيون!