زين الشامي / «الربيع العربي» يخسر سمعته بسبب الغوغاء
1 يناير 1970
03:29 ص
بعد ايام قليلة من حادثة مقتل السفير الاميركي في ليبيا كريستوفر ستيفينز، وبعد موجة من الاضطرابات وأعمال العنف والهجوم على عدد من السفارات الاميركية في بعض الدول العربية والإسلامية، بعد ايام قليلة من كل ذلك ارسل لي صديق اميركي اسمه «روبرت ليناردو» رسالة يسألني فيها عن حقيقة ما يجري في دول الربيع العربي ولماذا المتظاهرون يحرقون علم بلاده ولماذا قتلوا السفير ستيفينز؟ كذلك تساءل روبرت خلال رسالته عن حقيقة الفيلم السيئ السمعة المسيء للإسلام، وقال هل يعقل ان يتسبب فيلم متواضع وبائس من الناحية الأخلاقية والفنية كل ذلك بالناس بحيث يهاجمون السفارات الاميركية ويقتلون اميركيين ويحرقون علم الولايات المتحدة وهي التي ساعدت عموم البلدان التي انتفضت على الأنظمة الاستبدادية فيها بدءا من تونس ومرورا بمصر وليبيا واليمن؟
أخبرني روبرت بأنه مثل الغالبية من الاميركيين قد تفاءلوا خيرا بثورات الربيع العربي واعتقدوا ان الناس في الشرق الاوسط صارت اكثر وعيا وادراكا واهتماما بمسألة الحريات واكثر إيمانا بالوسائل السلمية.
في الحقيقة رأيت في رسالة «روبرت» ألما وخيبة اكثر مما رأيت فيها مجرد أسئلة خاصة وانا اعرفه جيدا وكنا نلتقي بين الفينة والأخرى ونتحدث فيها عن تفاصيل ما يجري في البلدان العربية، لا بل أني لا أذيع سرا لو قلت انه يعرف اشياء وتفاصيل في جغرافية وتاريخ الدول العربية والصراع العربي الاسرائيلي اكثر مما انا اعرف لدرجة انه حدثني مرة عن حرب 1967 وسير المعارك على الجبهات العربية وقتذاك، كما انه كان يرافق حديثه وشرحه برسم الخرائط للدول العربية والحدود على ورقة أمامه، وذات مرة رسم خريطة الجمهورية العربية السورية بحدودها مع لبنان وتركيا والعراق والأردن وفلسطين بدقة اثارت انتباهي واستغرابي لدرجة أنه لاحظ استغرابي وإعجابي معا فما كان منه الا ان اخبرني انه درس الجغرافيا في جامعة كولورداو وهذا جزء من اختصاصه وهو الامر الذي بدد لي شكوكي بحقيقة الرجل الذي اجلس معه.
ما قصدته من حديثي عن «روبرت» هو ان هذا الرجل مثله مثل أميركيين آخرين كانوا من المهتمين والمتفائلين بربيع العرب، ولا أبالغ اذا قلت من المحبين والداعمين لثورات الربيع العربي، ولا اشك لحظة بذلك لأنه كان غالبا ما يجعلني أتأمل خيرا بهذه الثورات كلما اصبت بإحباط ما هنا او هناك جراء مقتل متظاهر او بعد ارتكاب مجزرة او تأخر سقوط هذا النظام او ذاك، حتى انه شرح لي بمنطق علمي وتاريخي كيف ان النظام السوري سيسقط لا محالة مهما طال الزمن بناء على حقائق وحوادث معينة مستشهدا بتجارب مماثلة لأنظمة سابقة كانت اشد فتكا وإرهابا واجراما بحق شعوبها.
وعودة لتلك الرسالة فلابد لي ان اعترف هنا أنني تمهلت كثيرا في الرد عليها واردت من وراء ذلك ان اكون متسلحا ما امكن بالهدوء والعقلانية والصبر، في الوقت نفسه كان علي ان افهم ما وراءها من الم وحزن وخيبة بسبب ما جرى خاصة وان مقتل ذلك الديبلوماسي الاميركي في قنصلية بلاده في مدينة بنغازي قد ترك أثرا كبيرا بنفسية ومشاعر الغالبية العظمى من الشعب الاميركي لأن السفير الراحل معروف عنه انه كان من اشد المؤمنين بحق الشعب الليبي بالتحرر من أسوأ ديكتاتورية عرفها شمال أفريقيا وقد عمل على مدار الساعة من اجل مساعدة الثورة الليبية قبل وبعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي.
في ردي على «روبرت» تحدثت اولا عن حساسية وأهمية المسألة الدينية بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية وأخبرته ان ما يعتبر مجرد فيلم تافه في الثقافة الغربية قد يحرق بلدان الشرق الاوسط كلها ويتسبب في حروب كبيرة فيما لو اقترب من المقدسات الدينية. قلت ذلك لأنني اعرف تماماً ان الثقافة الغربية تنظر الى ذلك الفيلم المشبوه، او اي فيلم، على انه مجرد فيلم بغض النظر عن مستواه الفني او قيمته ومضمونه. ثم من ناحية ثانية فإن الغرب عموما يقدس تماماً ويحترم حق الجميع في التعبير والنشر والقول ولا تستطيع اي سلطة ان تحاسب أحدا او فنانا او صحافيا او كاتبا فيما لو مارس هذا النوع من الحقوق، اما اذا كان هذا الفيلم او ذاك العمل يحقر او يشوه من دين معين او شخصية مقدسة فهذا متروك للذائقة العامة وحكم شباك التذاكر والصحافة والرأي العام، فإما ان يستنكروه ويتركوه نسيا منسيا او ينتقدوه او يعبروا عن إعجاب ما او تقدير، لذلك هم في الغرب يستغربون كل ردود الافعال العنيفة من قبل المجتمعات الاسلامية او العربية على رسم كاريكاتيري ما او فيلم، لا بل ان بعضهم وعندما يرى مثل ردود الافعال العنيفة هذه يقوم بالتضامن مع اصحاب الرسوم الكاريكاتيرية او صانعي الأفلام ليس من باب الإعجاب او الاحترام لها كقيمة فنية بل من باب احترام وصون مبدأ الحريات عموما. حيث يحق للرسام ان يرسم ما يشاء والمخرج ان يصنع الفيلم الذي يرغب.
هذه هي حقيقة سوء الفهم الدائم والمتكرر بين الشرق والغرب، ففي الوقت الذي تعتقد فيه الشعوب الخاضعة لأنظمة ديكتاتورية ان الحكومة هي من تتحكم بكل شيء، بالصحافة والنشر والدراما والسينما وتملك حق الرقابة والمنع والحجب، تعيش الشعوب في المجتمعات الغربية ثقافة اخرى، وتعتبر ان ليس من حق الحكومات التدخل في مثل هذه الحقول والحريات. ولعل هذا ما دفع العديد من المتحدثين الاميركيين وأولهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون للتأكيد ان ليس للحكومة الاميركية اي علاقة بالفيلم الذي انتج في الولايات المتحدة وأساء للإسلام والمسلمين.
نعم هذه هي الحقيقة، ليست هناك علاقة لأي حكومة أميركية او غربية بمثل هذه الامور، ولا تستطيع ان تتدخل لان ذلك يعني تدخلا في الحريات الشخصية التي دفعت تلك الشعوب ثمنا باهظا لنيلها.
من ناحية ثانية حاولت ان اذكر «روبرت» بالمناخ السياسي والحملة الانتخابية بالولايات المتحدة وطرحت له تساؤلات عن سر توقيت انتاج الفيلم في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، وفيما لو كان الذي حصل جزاء من مؤامرة تستهدف الرئيس أوباما نفسه من خلال تصوير ثورات الربيع العربي التي دعمها وأيدها على انها مجرد ثورات غوغاء وان الشعوب العربية لا تستحق دعم الولايات المتحدة وبالتالي إفشاله في الانتخاب الرئاسية. كذلك قلت له انه ربما يكون من مصلحة روسيا او اسرائيل او ايران او اي دولة اخرى متضررة من ثورات الربيع العربي ان تساعد في مثل هذه الهجمات على السفارات الاميركية وتأجيج مناخ التطرف ومعاداة اميركا في الدول العربية....
باختصار شديد، كتبت كثيرا لصديقي روبرت، لكني ما زلت أؤمن ان ما حصل اضر كثيرا بسمعة ثورات الربيع العربي. ان من حق الناس التعبير عن معارضتها وشجبها للفيلم والتظاهر بسلمية وتحضر ومخاطبة الغرب بلغة النقد والعقل والفن لكن ليس أبدا بلغة الكراهية والعنف والقتل والحرق، ان ذلك لا يليق بالدين الاسلامي ونبي المسلمين محمد «ص» الذي ضرب مثلا بالتسامح حين أتى بعضهم وقام بتنجيس احد المساجد وما كان منه الا ان نظف بيديه تلك النجاسة ومنع صحابته والمؤمنين من الحاق الأذى بمن فعل ذلك، كذلك نحن نعلم جميعا ان للدين الاسلامي رب يحميه ولا يعتقد اي مسلم في العالم انه يحمي الاسلام بمجرد حرق علم دولة اخرى او الهجوم على سفارة ما.
زين الشامي