أماكن / عندما رأيت محفوظ... في الشارع للمرة الأولى (2)
1 يناير 1970
10:33 م
| جمال الغيطاني |
كنت أقف منتظرا صديق وزميل دراسة، سكن تلك العمارة القديمة المطلة على شارع عبدالخالق ثروت باشا... عندما ظهر نجيب محفوظ كنت أمسك** مجموعة قصصية لأنطون تشيخوف ترجمها الى العربية الدكتور محمد القصاص، ولا أزال أحتفظ في مكتبتي بتلك المجموعة الجميلة، تقدمت منه، وعندما نطقت بالتحية... أطلت عليّ نظرته الهادئة، المتأملة، التي لم تغيرها السنوات وتواليها وما تحفل به، عين النظرة التي أراها حتى الآن، رغم أن العينين أدركهما الوهن، وأصبحتا غير قادرتين على القراءة، وضاق مدى الرؤية، فلا يميز الشخص الا من مسافة قصيرة، لكن لاتزال نظرته تلك تضفي حضورا خاصا يميز ملامحه، يتلخص في كلمة واحدة «طيب» في العامية المصرية كلمة دالة، كلمة، «طيب» انها تعني الرقة والخصال الحسنة، وحب الخير، وكل ما هو انساني جميل، لا أجد الا تلك الكلمة تلخص نظرة محفوظ وتطلعه اليّ ذلك الصباح البعيد عني الآن.
«صباح الخير يا أستاذ نجيب...»
«صباح النور... أهلا...»
قلت له انني مبسوط لرؤيته، وانني أقرأ له، وأحببت ما قرأت، وانني أكتب أيضا، أبدى ترحيبا، ودعاني الى الندوة الأسبوعية.
قال بصيغة الجمع:
«احنا بنقعد كل يوم جمعة من الساعة عشرة...»
في الأسبوع التالي مباشرة، في تمام العاشرة كنت أدخل القاعة في مقهى أوروبي الطابع، أي أنه مقهى من دون نرجيلة، من دون لعب طاولة أو دومينو، كان يحتل الطابق الثاني من مبنى يتكون من ثلاثة طوابق، الطابق الأول يحتله مقهى أنيق، تقدم فيه النرجيلة، وكان من المقاهي القليلة وقتئذ في القاهرة الذي يمكن أن يرى فيه المرء نساء يجلسن لتدخين النرجيلة، ويقدم أيضا المشاريب الأخرى.
الطابق الثاني كان مقهى تقدم فيه المشاريب فقط، أما الثالث فكان له مدخل جانبي خاص، اذ كان عبارة عن ملهى ليلي، وكان معروفاً باسم صاحبة المبنى كله، الراقصة صفية حلمي.
ويبدو أنها كانت تحظى بشهرة في ثلاثينات وأربعينات القرن، وأتيح لي أن أراها في هذا الملهى خلال الستينات، كانت سيدة متقدمة في السن، متوسطة القامة، يقتصر ظهورها على بضع دقائق تتوسط خلالها الراقصات اللواتي سيقدمن استعراضاتهن، ثم تنسحب الى مائدة في أقصى الصالة، وسمعت من يقول انها عملت مع الراقصة الشهيرة بديعة مصابني.
الطابق الثالث لا يعمل الا بعد العاشرة ليلا، وله مدخل منفصل، لذلك لم يكن جزءا من الطابقين الأول والثاني، المتصلين عن طريق سلم واحد، كل منهما يؤدي الى الآخر، وكان المشاهير يقصدون المقهى ويجلسون به، ويبدو أن ادارة المقهى كانت ترحب بندوة محفوظ الأسبوعية.
فكانت الموائد تضم الى بعضها بشكل طولي، وينتظم حولها الأدباء والمريدون، بينما يتصدر محفوظ الجلسة، اذ كان الجميع يتحلقون حوله، كان يصغي ويشارك، ويطرح الأسئلة، وكان يجلس حوله الأديب الحضرمي الأصل أحمد علي باكثير، والأديب عبدالحميد جودة السحار، والأديب ثروت أباظة، ومن رواد المقهى الشباب وقتئذ القصاص أحمد النوح، وكان خفيف الدم، كثير النكتة، واختفى في السنوات التالية لبدء ترددي على الندوة ولا أدري شيئا عنه الآن، كان هناك الأديب صبري موسى، الذي أبدى محفوظ اعجابا بمجموعته القصصية «حكايات صبري موسى» التي صدرت في الكتاب الذهبي، أذكر أنه وصفها بخطوة مهمة في سبيل وصل القصة القصيرة بفن المقامة.
غير أن صبري موسى لم يواصل ما بدأه، غير أن أهم من التقيت بهم في الندوة زملائي أدباء الستينات في تلك الندوة تعرفت على محمد البساطي، ومجيد طوبيا، وابراهيم منصور، وابراهيم أصلان، وسعيد الكفراوي، وصبري حافظ، وغالي شكري، وغيرهم، كانت الندوة بمثابة الهدف الذي سعى اليه الجميع.
أذكر مقابلتي الأولى لمحمد البساطي، وكان قد أنهى خدمته العسكرية للتو، بالأمس، وعند خروجه الى الحياة المدنية قصد ندوة نجيب محفوظ، لولا تلك الندوة لأمضينا أعوام عدة حتى يتم لقاؤنا، أعني أدباء الستينات، ولذلك أعتبرها من التجمعات الأدبية المهمة التي لعبت دورا في تقارب وتفاعل أبناء هذا الجيل.
وعندما أقول ندوة محفوظ فانني لا أقصد هذا المكان الذي جلست اليه فيه للمرة الاولى، اذ انتقلت الندوة بعد ايقافها عام واحد وستين، الى أماكن عدة أخرى حتى استقر بها المقام في كازينو قصر النيل، وفيه انتهى اللقاء المفتوح بعد محاولة اغتيال الأستاذ عام أربعة وستين ليبدأ زمن الأماكن المغلقة والتي عاش يحتضنها طوال عمره، اذ عاش عمره يسعى بين الناس، يسعى بالمعنى الحرفي للكلمة، يخرج من بيته في العجوزة السادسة صباحا ليمشي حتى وسط البلد، ليرشف فنجان القهوة ويقرأ الصحف، ثم يذهب الى مكتبه أيام الوظيفة، أو يعود الى بيته في سنوات المعاش.
توقف هذا كله، وبدأ منذ عام خمسة وتسعين زمن الأماكن المغلقة، المحروسة بأفراد الأمن، الأمن نفسه الذي وضع حدا لنهاية لقاء الجمعة الأسبوعي في مقهى الأوبرا.
استمرت تلك الندوة سبعة عشر عاما تقريبا، لم يتخلف عنها محفوظ قط الا في أيام اجازته السنوية التي كان يبدأ فيها ندوة أخرى مع توفيق الحكيم أمام البحر، لو أن المناقشات الأدبية التي دارت عبر تلك السنوات السبع عشرة سجلت، لحفظ لنا التاريخ وثيقة حية ذات شأن، كانت الحوارات جادة، يتخللها الضحك أحيانا، خصوصا مع قفشات محفوظ الشهيرة التي لايزال ذهنه يتمتع بالحدة والرهافة التي تمكنه من اطلاق النكات التي تجعلنا أحيانا نبكي من شدة الضحك.
ذات صباح وصلت الى كازينو الأوبرا مبكرا، كان محفوظ يجلس بمفرده، أدركتني رهبة فجلست أمامه صامتا وفجأة سألني بحنو:
«جمال... أنت بتكتب ليه...»
- بوغت بالسؤال: قلت بعد حيرة: «باكتب لأنني عاوز أكتب...»
الآن... عندما أستعيد صوته، وإلقاءه السؤال، أكاد أثق أنه كان يسأل نفسه قبل أن يسألني، وعندما أستعيد طلته عليّ عندما تقدمت منه للمرة الأولى، أكاد أراها في عينيه كلما قابلته أول دخوله جلستنا كل ثلاثاء، أو عند دخولي عليه، طلة طيبة، رحبة، أصيلة، ندية، لقد اتصلت علاقتنا وتطورت عبر السنين، انتقلنا معه من الشباب الى الشيخوخة، لم نعش معا أفراحنا وأحزاننا وهمومنا الخاصة فقط، بل ما يتصل بالوطن والانسانية، واذ تحل ذكراه المئة، أستعيد عمري معه، وأيامنا التي كانت.