لا يفوّت رئيس مجلس الامة جاسم الخرافي فرصة إلاّ ويوجه فيها رسائل او «غمزات» او «قذائف» الى الصحافة، وهو فعل ذلك في خطابه الذي ألقاه في افتتاح دور الانعقاد الثالث مطالبا إياها «بتعزيز روح الشراكة الوطنية» وبألاّ تعتمد «التصعيد والاثارة» بما يضعف «وحدة الصف ويسيء الى سمعة الكويت»، وبأن تعمل على «اطفاء الحرائق قبل الانشغال في البحث عن اسبابها».
هذه الرؤية «الاعلامية» تتسع لجدل واعتراض ووجهات نظر اخرى، فتعزيز روح الشراكة الوطنية واضعاف وحدة الصف واشعال الحرائق والاساءة الى سمعة الكويت... ممارسات أول من يُسأل عنها رجال السياسة، وآخر من يُسأل عنها الصحافة.
ومع ذلك لا بد من القول ان خطاب الخرافي في المجلس كان خطابا تأسيسيا لكويت المستقبل... اذا احسن الحكم قراءته.
جاسم الخرافي تحدث في وطن عبد الله السالم وليس في قاعة عبد الله السالم. تطرق بروح المسؤولية الى مشاكل السلطات كلها وليس الى مشكلة سلطة بعينها. تجرد من منصبه كرئيس لسلطة تشريعية لمصلحة سلطة اكبر بكثير عمادها مرضاة الله والضمير ومصالح الكويتيين. خاطب النظام قبل اندفاع نقاط النظام ووجه النصح الى الحكم قبل تفنيده خطاب الحكومة. تكلم بصوت الناس وليس بصوته.
القاعدة الشهيرة في المجتمعات الديموقراطية العريقة تقول: «الرجل هو النظام»، اي ان كل مسؤول او مواطن هو الركيزة الأم لما يعرف بالمؤسسات، ورئيس المجلس اكد ان النظام الديموقراطي «كان وسيبقى خيارنا الوطني» الذي لاغنى ولا بديل للتنمية والتقدم والوحدة الوطنية والامن والتماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي. لكن توافر الانظمة والرجال وحده لا يكفي فلا بد من «حكمة ورشاد وقوة عزيمة» سأل الخرافي الله منحها والهامها.
وتوافر الالتزام وحده بالنظام ايضا لا يكفي، فالتحضر يقتضي الالتزام «بممارسة سياسية واعية تؤسس وتبني وتصون»، وهذه الممارسة تتراكم بالحكمة والرشاد وقوة العزيمة والخبرة. ولأن «الرجل هو النظام» فلا يتوقع احد مجاراة التطور واللحاق بمن سبقنا ما دامت «النفوس تغيرت والسواعد تباعدت وعزيمة البناء تعطلت والانجازات تراجعت».
لم يقل رئيس المجلس المنتخب من الشعب ان الفرص ضاعت ولم يقل ايضا انها سهلة وفي متناول اليد. قال ان الكويتيين على مفترق طرق وامامهم الخيار وفي يدهم القرار. وهنا توجه بالكلام مباشرة الى سمو الامير ربان السفينة وقائد الركب والأب والمرجع والمسؤول عن وطن «وضعه اهل الكويت بين يديكم امانة»، مناشدا اياه تحويل خطاب الاصلاح الى خطة وقرار، وفق رؤية شمولية «تضع حدا للممارسات العقيمة وتطور الوسائل والاساليب القديمة وتجعل سيادة القانون اولوية وحكم المؤسسات نظاما ومرجعية تدعمها السلطات الدستورية الثلاث».
كلام جريء وكبير في مفترق طرق لا يمكن ان يصدر الا عن رئيس سلطة منتخبة من مواطنين اقل ما يقال فيهم انهم «محبطون» نتيجة قصور المسؤولين، جميع المسؤولين، عن اغتنام فرصة تاريخية سياسية واقتصادية لن تتوافر مرة اخرى في عمليات التنمية والتطوير والاصلاح خصوصا وسعر برميل النفط يلامس المئة دولار. كلام جريء أعقبته عبارات اكثر جرأة دعت الى الذهاب فورا في اتجاه عملية اصلاحية شاملة «قد لا تخلو من الالم» لمواجهة تحديات ستكون اشد صعوبة وتعقيدا «وقد تكون اكثر ألما لا قدر الله».
كان ذلك هو العمود الفقري للخطاب التأسيسي للرئيس الخرافي، وهو اكمله بتفاصيل ترجمت ما يقصده سواء بالنسبة الى مسؤولية الحكومة او المجلس او المواطن، في ظل تحديات كبيرة اقليمية ودولية حدد مقومات التصدي لها وحدد عوامل القوة التي ما زالت موجودة في الكويت ويمكن البناء عليها للتغيير بعيدا عن تمترس كل سلطة خلف مصالحها.
قال الخرافي كلمته لكن « الممارسات العقيمة والوسائل والاساليب القديمة» التي تحدث هو عنها غطت على الكلمة وحضرت بقوة من خلال العاصفة السياسية المستمرة، فتحكم الصوت العالي - كالعادة - في اتجاه الريح بدل الصوت العاقل، واستمر الخلل في العلاقة بين السلطتين من خلال عناصر جديدة وكأن اوراق التأزيم في ملفات الحكومة والنواب لا تنضب.
خطاب تأسيسي نتمنى على من يعنيه الامر قراءته بشكل صحيح، لانه في النهاية صوته وصوتنا، بعيدا من تحميل المسؤولية لاطراف اخرى وعلى رأسها الصحافة، كما فعل بو عبد المحسن «غامزا» من قناتها وهو يعلم تماما انها صوت الناس اساسا وتنقل حدثا... يجري في بلاط الآخرين وليس في بلاطها.
جاسم بودي