مشاهد / صياد اللؤلؤ

1 يناير 1970 05:56 م
| يوسف القعيد |

رأيت المرحوم رجاء النقاش لآخر مرة ـ وكنت أتمنى ألا تكون المرة الأخيرة ـ منذ فترة. في عزاء المرحوم محمد عودة، وقد أكبرت فيه نزوله من آخر الدنيا... لكي يعزي في صديق عزيز علينا جميعاً... فالرجل يسكن على أطراف القاهرة من ناحية الفيوم.

يوم عزاء عودة... كان فيه حضوره الذي عرفته. ورغبته في الكلام وقوفاً بعد أن خرجنا من العزاء. يأخذنا من موضوع لموضوع آخر.

وهكذا طوفنا حول مصر والوطن العربي والأمة الإسلامية والعالم كله... في حوالي ساعة... وقفناها نتكلم دون تخطيط مسبق، ودون خطة للكلام.

وكان اللقاء السابق على هذا اللقاء... ندوة عقدت في الهيئة المصرية العامة للكتاب... لمناقشة أحد أعمالي الأدبية الصادرة في مكتبة الأسرة.

فوجئت باتصال رجاء النقاش بي تليفونيا... قبل موعد الندوة بساعة. قال لي إنه سيحضر الندوة، ولكن بشرط أن أبلغ الشاعر شعبان يوسف... الذي سيدير الندوة ألا يطلب منه الكلام... احترمنا رغبته، ولكنه بعد الندوة عزمنا على سهرة في كافيتريا مول قريب من الهيئة... قال إنه يحبها لأنه يحضر إليها مع أحفاده. ويقضي فيها وقتاً طويلاً ينسى فيه الدنيا بكل ما فيها. يعطيها ظهره،لا يتذكر منها إلا الأشياء الجميلة وما أندرها.

أكبرت فيه أن سائقه سيد... كان يجلس معنا على نفس المنضدة، ورغم أن رجاء اشترط علىّ لكي يحضر الندوة ألا يتكلم أبداً، قال لي إن نفسه «مسدودة» ولا يحب أن يتكلم في هذه الليلة.

إلا أننا بعد أن جلسنا وطلب لنا ما نشربه... بدأ الكلام، استغربت لحد الذهول... فالرجل الذي لم يحب أن يتكلم أمام الناس، ولا يخطب في مواجهة الجماهير... يريد الكلام الذي لا ينتهي.

ما إن بدأ الكلام حتى استمر فيه. والكلمات تشتعل من بعضها مثل النيران، وكل حكاية تقود إلى أخرى.

وتتولد القصص من بعضها... لدرجة أننا كان يمكن أن نبقى هكذا حتى صباح اليوم التالي وهو يحكي والأهم من كل هذا أنه سعيد بما يحكيه.

حكى رجاء كما لم يحك من قبل عن حياته. وتغير الأزمنة وتبدل الأحوال، وكيف كانت الفرص أكبر من قدرتنا على استيعابها في ستينات القرن الماضي. كان رئيساً للتحرير قبل سن الثلاثين، وكانت هناك فرصتان معروضتان عليه في نفس الوقت.

كان رجاء النقاش قد بدأ في إملاء مذكراته... لصديقتنا الإعلامية والمثقفة اللامعة فريدة الشوباشي، ونشرت جريدة العربي الناصري أجزاء منها، لكنها توقفت... وحتى الآن لا أدري سبب التوقف... هل مرض رجاء النقاش السبب؟ أم انشغالات فريدة؟ أم زحام النشر في العربي الناصري؟ ورغبة أصحاب الجريدة في متابعة الآني والراهن أكثر من الكلام حول الثقافة التي أتصور أنها لا تقل أهمية عما يطالعنا وجه الوطن كل صباح.

ذات مرة كتبت تحقيقاً في المصور عن فلاح مصري علم أبناءه السبعة تعليما جامعيا... دخل علىّ رجاء يوم نشره... قال لي إن والده المرحوم محمد عبد المؤمن النقاش فعل معهم هكذا، وبعد رحيل والده ربى إخوته وضحى من أجلهم وأصبح أباً ثانياً لهم.

وهكذا أهدى الثقافة العربية أسماء من آل النقاش لعبت أدواراً مهمة في الثقافة العربية في سنواتها الأخيرة. منهم «فريدة النقاش. وأمينة النقاش. وعطاء النقاش. ووحيد النقاش. وفكري النقاش». الوحيد من أشقائه الذي لم يشتغل بالكتابة هو عاصم النقاش.

رجاء النقاش مؤسس النقد الأدبي والكتابة الثقافية في الجريدة اليومية أو المجلة... مكتوباً بلغة سهلة. ولكن بساطتها لا تحول دون أن تكون لها أعماق بعيدة، هو الذي قدم أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه الأول: مدينة بلا قلب.

وكان كتابه: محمود درويش. بداية معرفة الوطن العربي به، وكذلك فإن نشره لرواية الطيب صالح: موسم الهجرة إلى الشمال في مصر. شكل الميلاد العربي الأول للروائي السوداني. ومن شدة إعجابه بالشاعر الفلسطيني سميح القاسم... أطلق اسم ابنه الوحيد عليه، وقد رأيت سميح وهو ينادي رجاء النقاش في بيته.. مقلداً طريقة المصريين في النطق: يا أبو سميح، ثم يقول له مرة أخرى يا بابا.

إن كان في الصحافة المصرية رؤساء تحرير شكلوا مدارس مثل: محمد حسنين هيكل. ومحمد التابعي. وأحمد بهاء الدين. ومصطفى أمين. وصلاح حافظ... فإن رجاء النقاش واحد من هذه الكوكبة التي صنعت للصحافة مجدها خاصة في مجال الصحافة الثقافية... من خلال دوره في مجلة الهلال. الذي أكمل فيها سلسلة الأعداد الخاصة. التي كان قد بدأها كامل زهيري عن العقاد وشوقي والحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ.

وهذه الأعداد مازالت تشكل المرجع الصحافي الأساسي لكل منهم. وكان من أوائل الذين تنبهوا لأهمية الصورة.. التي لا تقل عن الكلمة، وعندما ضاقت مصر بأبنائها في سبعينات القرن الماضي... شد الرحال إلى قطر... حيث أسس مجلة الدوحة كنموذج يحتذى في الصحافة الثقافية العربية. فضلاًً عن مشاركته في تأسيس جريدة الراية.

لست أذكر من الذي قال إن كل فنان بداخله طفل كبير... لا يستطيع أن يتخلى عنه أبدا، وفي أعماق رجاء النقاش كانت هذه الطفولة الجميلة... يغضب بسرعة، وينسى غضبه بنفس السرعة، ويستطيع أن يمد وده لكل من يتقابل معه، ويشعره أن ثمة شيئاً ما يربطه به.

إلى أن مرض رجاء النقاش... المرض الأخير بالكبد... أصبح كبده عليلا... تلقى حقناً من نوع خاص في المستشفى العسكري الدولي.. على طريق الإسماعيلية. وثمن الحقنة عشرة آلاف جنيه، ولابد من 12 حقنة كمرحلة أولى من العلاج.

دفع رجاء ثمن الحقنة الأولى، ولكن قراراً وقعه الرئيس حسني مبارك، ونفذه وزير الصحة... يعالج رجاء النقاش على نفقة مصر الآن. وهو يستحق أكثر من هذا ألف مرة.

علمت أنه لا يقيم في المستشفى، ولكن في بيته الجديد البعيد النائي. الذي لا يصلنا به سوى التلفون، وفي الظروف العادية لم يكن رجاء يرد... فما بالك بظروفه الراهنة.

رحم الله رجاء النقاش رحمة واسعة بما قدمه للأدب المصري والعربي... من خدمات جليلة لا يمكن أن تنسى. ومن المؤكد أن مصر والأمة العربية والعالم الإسلامي سيردون له ما قدمه للأدب وللأدباء من جليل الأعمال.