ولادة إستراتيجية «حزب الله» الجديدة... من جيش إقليمي إلى مقاومة محلية

18 ديسمبر 2024 10:00 م

«... إذا كنتم ضعفاء، فسنغزوكم». إنها العقيدة الإسرائيلية الجديدة الواضحة والتي لا تقبل المساومة والتي تتجلى بطابعها العدواني في الانتهاكات المتكرّرة لسيادة سورية وتَجاهُلها الصارخ لاتفاقية فك الارتباط ووقف إطلاق النار لعام 1974م، واحتلالها لأراضٍ سورية شاسعة.

ويؤكد إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل «لن تنسحب أبداً من مرتفعات الجولان»، نيةَ ترسيخ هذا الاحتلال في شكل دائم. وإلى جانب العقوبات الدولية الأقسى -التي ظلت قائمة رغم سقوط بشار الأسد- فإن هذه الظروف توجِد أرضاً خصبةً لظهور حركة مقاوَمة جديدة ضد إسرائيل، ما يهدّد، في حال أبقى الغرب على هذه العقوبات، بتأجيج السخط وعدم الاستقرار في سورية.

وفي حين يبدو الدور العملياتي المباشر لـ«حزب الله» في سورية متضائلاً حالياً، فإن احتمالَ إنتاج الأسلحة محلياً وتهريبها عبر الأراضي السورية لا يمكن استبعاده.

ومع تصعيد إسرائيل لاحتلالها العسكري وتفكيكها المنهجيّ للقدرات الدفاعية السورية، فإن قدرة الحزب على التكيّف وشبكاته اللوجستية القديمة قد تمكّنه من تطوير طرق بديلة للمحافظة على قدرته على الردع وتعزيزها.

ويركز النهجُ الإستراتيجي الجديد للحزب على أربعة عناصر رئيسية: موقفه من سورية، تقييم حرب إسرائيل على لبنان، التوجه المستقبلي للحزب، وأجندته المحلية الموسعة، مع التأكيد على مشاركة أكبر في المؤسسات اللبنانية.

وهذا يشير إلى إعادة معايرة براغماتية لإستراتيجيته وإلى تحوّل دوره من جيشٍ إقليمي إلى حركة مقاوَمة محلّية مكرَّسة في المقام الأول لحماية حدود لبنان وضمان الاستقرار الوطني في منطقة متقلّبة على نحو متزايد.

وتعكس هذه المعايَرة جهود الحزب لتأمين بقائه بمواجهة الانتقادات الداخلية المتزايدة. وكان العديد من السياسيين من الأحزاب المُعارِضة، في مرحلةٍ ما، يَنظرون إلى الحزب على أنه ضعيف وعرضة للإقصاء.

وقد غذّت مثل هذه التصوّرات الخاطئة التوترات الداخلية وأضيف إليها التأثير الحاد لنجاحات إسرائيل الأخيرة والتي كشفتْ عن نقاط ضعف «حزب الله».

علاوة على ذلك، فإن هذا التحوّل يستدعي الاعترافَ بأن إستراتيجية «جبهة الدعم» السابقة للحزب - والتي ركّزتْ على المشارَكات الإقليمية و«وحدة الجبهات»- ربما لم تكن القرار الصحيح. ومن خلال إعادة التركيز على مهمته الأساسية في الدفاع المحلّي وتعزيز الداخل، يسعى إلى التكيّف مع التحديات الخارجية والضغوط الداخلية، وتعزيز مكانته كقوة دفاع رئيسية في لبنان مع إعادة بناء الثقة بين قاعدته.

سورية والحزب... نهج عملي

يَعكس موقف «حزب الله» في شأن سورية إعادة معايَرة عملية، حيث يمكن أن تشكل المخاوف المشترَكة في شأن العدوان الإسرائيلي أساساً لأرضية مشتركة. وقد أدت العقيدة الإسرائيلية الجديدة المتمثّلة في غزو الجيران، إلى انتهاكات متكررة واحتلال أراض سورية واسعة، وتفكيك البنية التحتية العسكرية السورية في شكل منهجي يؤكد طموحاتها التوسعية طويلة الأجَل، ما يؤدي إلى تَفاقُم التوترات الإقليمية وتغذية إمكان تجدد مقاومةٍ، ليس بالضرورة مرتبطة بإيران أو الحزب، ولكن مع تلاقٍ على الهدف نفسه.

إضافة إلى ذلك، فإن اعترافَ الحزب بخسارة سورية كممرّ رئيسي للأسلحة يمثّل تحولاً لوجستياً حاسماً. ولكن تصريحَ أمينه العام الشيخ نعيم قاسم بأن «هناك طرقاً أخرى»، يشير إلى التكيّفِ السريع للحزب مع الواقع الجديد، ما يُظْهِر مرونتَه في الحفاظ على قدراته الرادعة.

ويبدو أن الحزب يحوّل تركيزَه نحو تعزيز إنتاج الأسلحة المحلية. واستلهاماً من حركات المقاومة الأخرى، من المرجّح أن يزيد من الاعتماد على الأسلحة المصنَّعة محلياً، بما في ذلك المسيرات والصواريخ الموجَّهة بدقة والقذائف غير الإستراتيجية، للحفاظ على القدرات الرادعة.

على سبيل المثال، في غزة، تحت الحصار المشدَّد الذي يقيّد حتى السلع الأساسية، أظهرتْ فصائل المقاومة براعةً ملحوظةً واكتفاء ذاتياً من خلال إنتاج وإطلاق آلاف الصواريخ والصواريخ المضادة للدبابات.

وهذا يدلّ على أن الإنتاج المحلي يمكن أن يدعّم ويعزّز القدرات العسكرية حتى في ظل الضغوط الخارجية الشديدة وندرة الموارد المطلوبة.

لكن الحزب يعمل في ظل ظروف أكثر ملاءمة. فالسوق اللبنانية منفتحة، مع قيود أقل وتَوافُر أكبر للمواد الخام، ما يمنحه مرونةً أكبر لتصنيع الأسلحة بحسب الحاجة، ويَجعل من الصعب للغاية قطْع قنوات الإمداد الخاصة به تماماً.

ومن الجدير ذكره، أن «حزب الله» نجح في التعامل مع التحديات من قبل. ففي الثمانينات والتسعينات، خلال فترة من العلاقات المتوتّرة مع سورية، تمكّن من إجبار إسرائيل في نهاية المطاف على الانسحاب من غالبية الأراضي اللبنانية.

ولم يعد الحزب بحاجة إلى مخزونات ضخمة من الأسلحة؛ بل التركيز بدل ذلك على الردع التكتيكي لمنْع القوات الإسرائيلية من التقدّم إلى لبنان واحتلال قراه.

التحول نحو المقاومة الداخلية

في الوقت الذي ألحقت إسرائيل أضراراً جسيمة بالحزب ـمستهدفة قيادته وأنظمة اتصالاته وبيئته الحاضنةـ فإنها فشلت في نهاية المطاف في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في «سَحْق المقاومة».

وإطلاق الحزب 350 صاروخاً في يوم واحد قبل وقْف الأعمال العدائية مباشرة -الأمر الذي أجبر أربعة ملايين شخص، أي نصف سكان إسرائيل، على اللجوء إلى الملاجئ- أثبت قدرته على الصمود العملياتي وأكد ضخامة ترسانته المتبقية داخل الأراضي اللبنانية. ويظلّ الحزب مستعداً جيداً للدفاع عن لبنان ضد أي غزو بري.

إن هذا الاستعراض للقوة النارية والاعتراف بأن الصراع المطوّل قد يستمرّ لسنوات، يؤكد قوة الحزب الدائمة ومكانته كمنظمة عسكرية تملك قدرات هائلة. ورغم الجهود الإسرائيلية لإضعافه، يظل قادراً على توجيه ضربات مستمرّة ومهمة، وإعادة تأكيد دوره كلاعب رئيسي في البلاد.

علاوة على ذلك، فإن أحد الجوانب الأكثر تعبيراً في خطاب الشيخ قاسم الأخير هو إعادة تموضع الحزب كقوةِ مقاومةٍ محلية، على غرار نشأته في أعقاب الغزو الإسرائيلي عام 1982.

ويَستند هذا التحول إلى عناصر رئيسية عدة، تشير إلى أن الحزب سيشارك بشكل أكبر في الشؤون الداخلية: دور أكثر حسماً في البرلمان والمؤسسات الحكومية؛ حضور أكثر أهمية في المؤسسات العامة، بما في ذلك نفوذه في أروقة صنْع القرار وتعزيز العلاقات مع الجيش، لوضع نفسه كخط دفاع رئيسي للبنان ضد التوغلات الإسرائيلية.

ويهدف الحزب إلى تعزيز دوره كحامي للبنان، عسكرياً وسياسياً، والابتعاد عن الطموحات الإقليمية الأوسع التي ميّزتْ القيادةَ السابقة تحت قيادة السيد حسن نصرالله.

وقد اعترف خطاب قاسم بشكل غير مباشر بأن الدور الإقليمي للحزب -كجزء من محور المقاومة الأوسع- لم يَعُدْ قائماً.

وفي ظل قيادة السيد نصرالله، استعرض قوته في سورية والعراق واليمن، متحالفاً مع النفوذ الإقليمي لإيران. ومع ذلك، كشفت الحرب المجرمة على غزة وعدم القدرة على منْع تدميرها عن حدود الدور الإقليمي للحزب كزعيم لـ«محور المقاومة».

ويبدو أن هذه الأيام قد انتهت وأن الحزب يعود إلى عقيدة دفاعية بدل طموحاتٍ هجومية، وهذا يعيده إلى التموضع كقوة مقاوَمة محلية تركّز على الدفاع عن حدود لبنان وأرضه.