بعيد عنّك

3 ديسمبر 2024 10:00 م

وقفتُ متأملاً بين عمالقة الطرب العربي في القرن الماضي، الشاعر مأمون الشناوي والملحن بليغ حمدي والرائعة أم كلثوم. وهنا أتامل كلمات الأغنية (بعيد عنك) التي تغنت بها سيدة الغناء العربي كوكب الشرق، أم كلثوم، رحمهم الله جميعاً، على مقام البيات.

ومن الطبيعي أن نتذكر القيثارة نجاة الصغيرة، وأثرها الإيجابي على الشاعر مأمون الشناوي، وهذا رأيي الشخصي لما أعرفه من معلومات عن الشناوي وتعلقه العاطفي بنجاة الصغيرة، فقد كتب لها بحسب ما سمعت أغنية (لا تكذبي) وغيرها.

وكانت (بعيد عنك) واحدة من تلك الأغاني الجميلة في زمانها ووقتها ماطرة لقصص وروايات، وما كتبه روّاد الصحافة العربية في تلك الفترة فلا غرابة أن تكون أغنية (بعيد عنك) بهذا الجمال، إذا اعتصر الشاعر والملحن والمطربة في معصرة الحكاية العاطفية بين الصغيرة فاتنة الشاعر فبدأها بكلمة (نسيت) النوم وأحلامه، نسيت لياليه وأيامه بعيد عنك. وكأنه يقول لها فعدت إلى محراب حبي متيّماً من جديد.

وفي الأعمال الفنية المختلفة جوانب عاطفية لكل واحدة منها قصة تكون هي أساس النجاح لذلك العمل أو الفنان أو المبدع بصفة عامة، أمثال ما يحكى عن الفنان الانطباعي العالمي فان غوخ، وقصة قطع أُذنه وما قيل عن دافنشي، مع لوحته (الموناليزا) أو الجيوكاندا، حتى كارفاجيوا، فنان العصر الباروكي في فلورنسا له مواقف وقصص تتحدث عن موديلات أعماله المعروضة في أشهر كاتدرائيات إيطاليا في القرن السادس عشر.

ولما نصل إلى بيكاسو، وسلفادور دالي، نجد شخصية مأمون الشناوي، تتكرّر كما حصل بين الملحن بليغ حمدي، ووردة الجزائرية، ولم يسلم منها محمد عبدالوهاب، موسيقار الأجيال وتعلقه بصوت ميادة الحناوي، كما أن أحمد رامي وأم كلثوم نفسها. يحكى أنهم أبطال حكايات أخرى...

ونعود للأغنية وأثرها على المتلقي كما هو الحال مع أغنية (بعيد عنك) التي فتحت أمامي آفاق الخيال وانفرجت لي طرق الذكريات حيث سمعتها أول مرة عام 1965 عندما غنتها أم كلثوم، ولم أتعمق بها كما اليوم وأنا أُعيد سماعها لأستمع لعازف الناي سيد سالم، في وصلة الصولو، وهو يحاور أوتار الكمان بشيء من التحدي الفني الرائع يطلق عليه اليوم الخروج عن النص، أو الارتجال. ففي هذه الأغنية استطاع الفنان سيد سالم، أن يثبت وجوده ويجعل أم كلثوم تعلق بإعجاب على خروجه الفني الجميل، وهي المعروف عنها بالالتزام الشديد بالنص الموسيقي المتدرب عليه على أقل تقدير بأربعين مرة بروفة وحفظ تام لكل حرف موسيقي.

فما فعله سيد سالم، عازف الناي، الراحل، رحمه الله، من نوادر المقطوعات يدرسه علماء الموسيقى في العالم العربي، كما أن عودة الأغنية لمسامعي بالأمس القريب كانت لحظات تأمل أخذتني إلى عالم أعشقه ومشتاق إليه، وللحديث بقية.