كثف «حزب الله» عملياته على طول الحدود مع إسرائيل، مستهدفاً في شكل مباشر المستوطنات الإسرائيلية في المقلب الآخر، فارضاً إيقاعاً يومياً جديداً للقصف.
وفي خطوة غير مسبوقة، أصدر «حزب الله» تحذيرات بإخلاء 25 مستوطنة في شمال إسرائيل هجرها المدنيون الآن واحتلتْها خمس فرق عسكرية إسرائيلية.
ورغم انتشارها على طول الحدود اللبنانية، امتنعت القوات الإسرائيلية عن التقدم إلى عمق جنوب لبنان، واعتمدت بدلاً من ذلك على حملة جوية لا هوادة فيها وعملت على تسوية 42 قرية بالأرض دون نشر فرق مدرّعة خشية من تدميرها، واقتصرت العمليات البرية على المظليين والمشاة.
ومن المرجح أن يكون سبب إحجام إسرائيل عن دفع الدبابات إلى داخل لبنان ما ذكرته التقارير عن أن «حزب الله» تمكن من تحييد 45 دبابة إسرائيلية بنجاح. وأدى التردد الإسرائيلي تالياً إلى عرقلة أي احتلال لمنطقة جنوب النهر لغاية اليوم، حيث اختارت إسرائيل إستراتيجية القصف المتبادل والتدمير الممنهج وقبلت بمعادلة الردع القصفي. فكل ضربة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت تقابلها هجمات من جانب «حزب الله» على ضواحي تل أبيب، في حين يتم الرد على الهجمات في وادي البقاع وجنوب لبنان بضربات على حيفا. وترسخ هذا الإيقاع الديناميكي المتبادل في قواعد جديدة للاشتباك.
ويُظهِر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عدم الميل لإنهاء الحرب، حتى مع تكبد القوات الإسرائيلية أكثر من 1200 ضابط وجندي بين قتيل وجريح في غضون أسابيع عدة - دون أي مكاسب إقليمية كبيرة أو خطط لإنشاء قواعد دائمة في لبنان.
أما الدمار الواسع النطاق على جانبي الحدود لم يحقق المنطقة العازلة التي وعد بها نتنياهو لتأمين عودة المستوطنين الإسرائيليين سالمين. وبدلاً من ذلك، اعتمد النهج القائم على الأرض المحروقة والتي تصبح مكشوفة لصائدي الدبابات، ولم يحقق أي ميزة إستراتيجية أو يتقدم نحو الحل الدائم.
وفي تصعيد كبير، نشر «حزب الله» صواريخه من طراز «فاتح 110» التي زودته بها إيران، ما يمثل نقطة تحول إستراتيجية. وبحسب التقارير، فإن أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية فشلت في اعتراض هذه الصواريخ الدقيقة، ما يشير إلى رسالة واضحة من إيران حول التصعيد الذي يمكن لإسرائيل أن تتوقعه إذا استمرت الحرب. إضافة إلى أن إظهار «حزب الله» لقدراته الصاروخية التي دخلت في الخدمة يتعارض مع مزاعم إسرائيل بتدميرها ترسانة الحزب، ما يؤكد تالياً أن مخزونه الإستراتيجي مازال يحتفظ بمفاجآت رغم تدمير إسرائيل آلاف مستودعات الذخيرة في الأيام الأولى التي سبقت الحرب.
ولابد من الأخذ في الاعتبار أن «حزب الله»، وعلى الرغم من كونه تنظيما قويا عسكريا، فهو لا يمكنه أن يضاهي القوة العسكرية الهائلة لإسرائيل التي تتمتع بدعم من الولايات المتحدة وحلف الناتو. فغالباً ما تتجاهل التقييمات هذا التفاوت، على النحو الذي يدفع المنتقدين في كثير من الأحيان إلى القول إن الحزب بات «منظمة مهزومة ومدمرة». غير أنه من الواضح أن مرونته في هذه الحرب الطويلة تشير إلى خلاف ذلك.
لقد برزت حقيقة غير مسبوقة تجلت في اضطرار ما بين مليون إلى مليونين إسرائيلي إلى الاحتماء بالملاجئ القريبة يومياً تقريباً، وهو مستوى من الاضطراب لم تواجهه إسرائيل من قبل، فعلى الرغم من هيمنتها العسكرية التي فشلت في احتلال بقعة صغيرة جنوب نهر الليطاني ولم يساعدها على ذلك تفوقها الجوي والاستخباراتي وعديد القوات.
وثمة من يعتقد أن مقاومة «حزب الله» المستمرة غيرت في شكل أساسي تجربة إسرائيل في الصراع، فانتابها الشعور بضعف لم تشهده في الاشتباكات السابقة مما انعكس وللمرة الأولى الاستطلاعات داخل إسرائيل مطالبة من الغالبية بوقف الحرب على لبنان.
وتشير الدلائل إلى أن «حزب الله» مستعد لصراع طويل الأمد، قد يستمر حتى انتهاء ولاية بنيامين نتنياهو بعد سنتين.
وتقضي إستراتيجية الحزب بإطلاق نحو 200 صاروخ وقذيفة وطائرة من دون طيار يومياً وذلك في إطار نهج مدروس في ضوء التحديات اللوجستية.
إذ يواجه خط إمداد الحزب مع إيران تحدياً ولكن دون انقطاع، إذ تمكن من الحفاظ على وتيرة عملياته على المدى الطويل دون استنفاد موارده وقوته حيث يتم نشر اثنتين فقط من وحداته القتالية الخمس. لقد وفر الاشتباك المطول لـ«حزب الله» فرصة لإظهار قوته الدائمة التكيف إستراتيجياً في الاستجابة للخسائر القيادية الكبيرة.
ورغم ذلك، لا يُظهر نتنياهو أي علامات تؤشر إلى تراجعه، بل اختار بدلاً من ذلك تمديد الصراع على الرغم من ظلال الشك حيال قدرته على حماية التجتمعات الإسرائيلية القريبة من الحدود اللبنانية.
ومن الواضح أن سلوك إسرائيل في الحرب يكشف عن تطبيع منهجي للتدابير المتطرفة في كل من لبنان وغزة، والتي أدت إلى خسائر بشرية مرتفعة ودمار غير مسبوق أمام مجتمع دولي غير مبالٍ بالدمار والقتل، ولا يقدم سوى القليل من الإدانة.
في غزة وجنوب لبنان، يتم تدمير المنازل والبنى الأساسية المدنية في شكل روتيني من خلال الغارات الإسرائيلية الجوية وتفجير المنازل مما يقوض حماية المدنيين والمرافق الأساسية. ويمتد هذا إلى استهداف المؤسسات والأفراد الدوليين، مع نتائج مدمرة. لقد فقدت الأمم المتحدة مئات العاملين تحت رايتها وعشرات الصحافيين فقدوا حياتهم في غزة. بالاضافة إلى ذلك، إن حظر إسرائيل أخير لوكالة «الأونروا» وتعريض حياة العاملين في المجال الصحي والمسعفين للخطر يؤكد على تجاهلها للمعايير الإنسانية الراسخة، غير آبهة بالمجتمع الدولي.
وسبق أن أعلنت أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هو شخص غير مرغوب فيه، رافضة بذلك المساءلة من أعلى ممثل للمجتمع الدولي، في وقت واجهت قوات «اليونيفيل» في لبنان بعشرات الهجمات ما أسفر عن إصابات في صفوف القوة الدولية، بعدما كانت تل أبيب طالبت بانسحاب القوات الدولية من المسرح العسكري، وهو الطلب الذي مازال دون أي استجابة.
ورغم الدعوات إلى خفض التصعيد، بما في ذلك من داخل المستوى العسكري الإسرائيلي، فإن القيادة السياسية تصر على نهجها، وتبدي رفضاً قاطعاً للتفاوض على تبادل الأسرى أو إعادة الجنود الأسرى من غزة أو التفاوض لوقف الحرب على لبنان دون شروط عدا تنفيذ القرارات الدولية المتفق عليها.
إن إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت، وسط حرب معقدة متعددة الجبهة، تؤكد عزم نتنياهو على تعزيز سلطته وإسكات المعارضة الداخلية.
وتشير التقارير إلى أن رئيس الأركان هيرتسي هاليفي قد يواجه مصيراً مماثلاً، ما يزيد من مركزية السيطرة والقضاء على الأصوات المنتقدة لنتنياهو.
وبدلاً من إعطاء الأولوية للخبرة العسكرية الإستراتيجية، يبدو أن رئيس الوزراء يفضل الولاء، حيث يعين حلفاء له مثل وزير الدفاع إسرائيل كاتس ووزير الخارجية جدعون ساعر، على النحو الذي يعزز موقفه في الكنيست إذا تمت الدعوة إلى انتخابات مبكرة، غير آبه بتحقيق محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية في جرائم حرب تورط بها وزير دفاعه السابق (غالانت).
ومع تراجع الاهتمام العالمي بهذه القضايا، فإن السعي إلى مساءلة القيادة الإسرائيلية قد يتلاشى من الأجندة الدولية، ما يسمح لنتنياهو بالمضي في هدفه وهو البقاء في السلطة.
يمتلك رئيس الوزراء القدرة على إنهاء الحرب على غزة ولبنان في أي وقت. لقد تحولت غزة إلى أرض قاحلة مهجورة، غير صالحة للسكن البشري. ولكن مازالت هناك مجموعات صغيرة مرنة من مقاتلي المقاومة، ما يلحق أضراراً يمكن للجيش الإسرائيلي أن يمتصها. أما في لبنان، يمكن لنتنياهو أن يدعي النصر الجزئي من خلال اغتيال قادة «حزب الله» البارزين وتدمير بعض البنى التحتية التشغيلية للحزب في جنوب لبنان، ووادي البقاع، وضواحي بيروت.
ومع ذلك، فإن هذه الإنجازات لا ترقى إلى اقتلاع «حزب الله» من جنوب لبنان، حيث يمكن للحزب أن يدعي النصر بالقدر نفسه من خلال تحمل هجوم إسرائيل وقدرته على إعادة تموضعه في الأمد البعيد. تالياً، فإن تحييد «حزب الله» بالكامل من الجنوب اللبناني - وهو الهدف الذي يبدو الآن غير واقعي - لن يتم في القريب العاجل. ومع استمرار القتال، تصبح التكلفة متزايدة بالنسبة إلى نتنياهو وإسرائيل، ما يؤدي إلى إطالة أمد الحرب.
إن طموحات نتنياهو لإحداث نكبة أخرى للفلسطينيين أو إخضاع «حزب الله» في لبنان أثبتت أنها غير واقعية، كما أن الصراع الطويل من شأنه تأليب الرأي العام الإسرائيلي والعالمي ضده.
وفي نهاية المطاف، عند توقف الحرب، قد يعلن كل جانب النصر لأسباب مختلفة، أما رؤية نتنياهو لـ «النصر الكامل» تظل بعيدة المنال.
ولا يمكن تحقيق حل حقيقي ــ بما في ذلك عودة السجناء الإسرائيليين المحتجزين في غزة وإعادة توطين الإسرائيليين النازحين من الشمال ــ إلا من خلال المفاوضات. وتغليب خيار السعي إلى السلام يقع على عاتق نتنياهو. فمن خلال الدبلوماسية فقط يمكنه معالجة التحديات المعقدة التي تواجهها إسرائيل على جبهات عدة، ولكن عليه الاقتناع بذلك أولاً.