لم تترك التطوراتُ الاستباقيةُ ولا اللاحقةُ للفوز المشهود لدونالد ترامب والتي أطلّت سياسياً من الداخل الإسرائيلي ثم عسكرياً على جبهة لبنان، مجالاً كافياً في بيروت للإحاطة بكل أبعاد وارتدادات «التسونامي» الأحمر الذي حقق معه المرشّحُ الجمهوري ما اعتُبر comeback تاريخياً، مستعيداً ليس فقط مفاتيح البيت الأبيض بل مُمْسِكاً أيضاً بمجلس الشيوخ ومقترباً من فوزٍ محتمل في مجلس النواب بما يجعله الرئيس المطلق اليدين.
ففي الوقت الذي لم يكن الديمقراطيون استوعبوا «صدمةَ» الانتصار الكاسح لترامب وحزبه، ولا وُضعت في «الميزان» المعاني العميقة لـ 5 نوفمبر الذي «صَعَقَ» كامالا هاريس وتداعياته الداخلية والدولية خصوصاً على الشرق الأوسط المشتعل، ولا تبلورت كل مسبّبات ما وُصف بأنه «ردُّ الاعتبار» الأقوى لرئيسٍ بدا أنه عاد - على موجةٍ شعبيةٍ من تأييدٍ عارم - مما اعتقد كثيرون في 2020 أنه «موت سياسي»، ارتسمتْ على جبهة لبنان معادلةٌ «بالنار» ظهّرها «حزب الله» على قاعدة «الميدان هو الميزان» الذي سيوقف الحرب ويَحْكم أي مسار سياسي، وصولاً لتدشين أمينه العام الشيخ نعيم قاسم مرحلة «دفاعية وهجومية» عنوانها الصمود على الحدود الجنوبية، وجعل إسرائيل «تصرخ من الصواريخ والطائرات في كل مكان» و«لن نبني لوقف العدوان على حِراك سياسي ولن نستجديه وسنسعى لجعْل العدو هو الذي يطالب بوقف العدوان».
ومن خلف غبار الصواريخ التي انهمرتْ على دفعات على تل أبيب الكبرى وصولاً إلى مطار بن غوريون ومحيطه الذي أُعلن عصراً أنه «تحت القصف» ما استوجب وقْف حركة الطيران فيه للمرة الثانية في ساعات، ودخان الغارات المدمّرة بقاعاً، خصوصاً مدينة بعلبك ومنطقة الهرمل، وجنوباً وبينها على مدينة النبطية، وصولاً لعودة الاستهدافات بعد الظهر للضاحية الجنوبية لبيروت، لاحتْ خشيةٌ من أن يكون «التفاعُل الأول» مع فوز ترامب من «محور الممانعة» وتل أبيب ينطوي على ملامح اشتدادٍ للعبة «عض الأصابع» فوق البركان المشتعل وسباقٍ بين مَن سيكون الأول لتوجيهِ «ضربةٍ استباقيةٍ» يُعتقد أن مَن سيقوم بها سيُمْسِك بـ «آلة التحكّم» بمرحلة انتقالية (حتى موعد حفل تنصيب ترامب في 20 يناير) مرشّحة لتكون الأخطر في عمر الحرب التي بدأت في غزة قبل 13 شهراً وتمدّدت سريعاً إلى لبنان ووجدت إيران نفسها في... شِباكها.
وتم التعاطي مع ارتقاء «حزب الله» في ضرباته على وقع فوز ترامب، الذي هنأه بنيامين نتنياهو على «عودته التاريخية» مستعيداً لغة «التحالف العظيم» على أنه في سياق ترسيمٍ «بالحديد والنار» لحدود «اللعب» في فترة الشهرين ونيف الفاصلة عن دخول ترامب البيت الأبيض وعدم الركون لوضعية «دفاعية» في ملاقاةِ عودة رئيسٍ عُرف بتشدُّده مع طهران وعدم انتهاج سياسة الاحتواء معها، وانهيارِ رهان إيران على «تمديد» ولاية جو بايدن، عبر هاريس، وتالياً على وجود نافذة لإخماد حريق غزة واخوته مع الإبقاء على كبْحٍ ولو صعب لنتنياهو عن الذهاب بعيداً في «مواجهة وجهاً لوجه» معها والتمهيد لـ «تصالُح» الجمهورية الاسلامية مع المجتمع الدولي ورفْع العقوبات عنها.
3 تطورات
وما عزّز المَخاوفَ من التسخين الكبير، أنه جاء على وهج 3 تطورات «موصولة» حُكماً بما بعد 5 نوفمير الذي يُعتقد أنه لن يكون كما قبْله:
- الأوّل إيحاء طهران أن ردَّها على الضربة الإسرائيلية الأخيرة عليها يقترب، وسط خشيةٍ من أن يكون فوزُ ترامب محفّزاً إضافياً لإيران لمحاولة إرساء «معادلات ردع»، إن لم يكن بالضغط هي على زناد الردّ، فعبر رفْع مستوى الاستهدافات ونوعيتها من «حزب الله»، أو استدراج «مواجهة» كبرى تختار بنفسها «مكانها وزمانها» عوض أن تنتظر «تلقّيها»، ما دام نتنياهو أَخَذ نَفَساً بفوز «صديقه».
وعزّز هذه الخشية الاعتقادُ بأن الرئيس المنتخَب لن يمانع أن يستفيد رئيس الوزراء من «فترة الشهرين» لإكمال ما أمْكن ما بدأه قبل أن تدقّ ساعةُ الحلول، وسط اقتناعٍ بأنه رغم كلام قريبين من ترامب عن أنه قد لا ينتظر تسلُّم منصبه لتشغيل محركات «وقف الحروب» وفق ما وَعَدَ، ونال على أساسه دَعْماً وازناً من العرب والمسلمين الذين حسموا النتيجة لمصلحته في ولايات متأرجحة مثل ميتشيغن، إلا أن لا أحد يتوهّم بأنه سيكون في وارد الدفع نحو تسوياتٍ لا تكون وفق شروط تل أبيب سواء في ما خص «حزب الله» أو طهران في ذاتها، في استعادةٍ لمرحلة حُكمه بين 2017 و2021.
- توجيه نتنياهو في «لحظة فراغية» أميركية، وفي الوقت الذي كانت الانتخابات الرئاسية على أشدها، ما بدا «ضربة استباقية» في السياسة الداخلية، بدت قبل صدور النتائج تحسُباً لفوز هاريس أو ملاقاةً لانتصار ترامب، فتخلّص ممن كان يُعتبر وديعة أميركية (لإدارة بايدن) في حكومته أي وزير الدفاع يواف غالانت، رغم وجود عوامل محلية وراء هذا الخطوة ترتبط بخلافاتٍ حول مشروع قانون إعفاء المتدينين اليهود «الحريديم» من الخدمة العسكرية، والذي عارضه غالانت بشدة ولوّح وزيرا المال والأمن القومي بالاستقالة وإسقاط الحكومة ما لم يمرّ. ولم يكن جفّ بعد حبر تعيين يسرائيل كاتس وزيراً للدفاع، حتى أعلن أن إسرائيل ستعمل مع ترامب على «تعزيز التحالف بين البلدين واستعادة الرهائن وهزيمة محور الشر الإيراني».
تشدّد قاسم
رسْم «حزب الله» مساراً متشدداً في السياسة، إلى جانب الميدان، عبّر عنه الشيخ قاسم - الذي استخدم لغة «المقاومين الذي أعاروا جماجمهم لله (عزّ وجلّ) – وأكد«نحن لا نبني على الانتخابات الأميركية، وهل نجحت هاريس أو ترامب، فهذا لا قيمة له ولا نعول عليه ولا على الحراك السياسي العام بل على الميدان» و«عندما يقرر العدو وقف العدوان هناك طريق للمفاوضات حددناه، هو التفاوض غير المباشر عبر الدولة اللبنانية ورئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يحمل راية المقاومة السياسية التي تؤدي إلى مكانة لبنان ووقف العدوان، وأساس أي تفاوض يُبنى على: أولا وقف العدوان، وثانياً السقف للتفاوض هو حماية السيادة اللبنانية بشكل كامل غير منقوص في ردّ ضمني على إصرار تل أبيب على حرية الحركة في لبنان في أي تسويةٍ لضمان عدم إعادة تسليح حزب الله والتصدي لأي تهديد وشيك لها منه».
وبرز في كلام قاسم أيضاً إشارةً برسْم الجيش اللبناني على خلفية الإنزال البرمائي الإسرائيلي في منطقة البترون وخطف عماد أمهز، إذ قال «ان يدخل الإسرائيلي بهذه الطريقة، هذا أمر فيها اساءة كبيرة للبنان وانتهاك لسيادته وعلامات استفهام كثيرة، وأنا اليوم لن أتهم، لكن أطالب الجيش اللبناني المعني بأن يحمي الحدود البحرية أن يصدر موقفاً وبياناً يبيّن لماذا حصل هذا الخرق، حتى ولو قال إنه لم يكن قادراً أو كان عاجزاً. وأيضاً، فليسأل اليونيفيل ولا سيما الألمان ما الذي رأؤه في تلك الليلة وما الذي فعلوه وليطلع الناس على ذلك».
وفي ظلّ هذه المعطيات، ترتفع المخاطر حيال جبهة لبنان وسط تسليمٍ بأن إدارة بايدن ستكون عالقة حتى يناير، بين عدم قدرةٍ على التأثير، الذي بالكاد كان موجوداً، على نتنياهو الذي باتت الإدارة الراحلة «وراءه»، وبين عدم رغبة في القيام بمهمة «تفكيك القنبلة» وإهداء ذلك إلى ترامب وتحبيذها على الأرجح أن تنتقل «تركة» الحرب له، في الوقت الذي يُنتظر أن تعاود إيران «تنظيم صفوفها» والمحور بما يتلاءم مع«الكابوس العائد» والذي اعتقدت قبل 4 أعوام أنه«ذهب مع الريح».
وفيما كانت حرائق هائلة في مستوطنات إسرائيلية مثل افيفيم (ومحيط تل أبيب) تستقطب العدسات، قوبل الاستهداف المتكرر لتل أبيب والكلام عن سقوط صواريخ في مطار بن غوريون ومحيطه بحبْس أنفاس حيال الردّ المحتمل عليه، وسط خشية من أنه لو اتضح أن هذه الصواريخ جاءت من «حزب الله» ولم تكن من منظومة الدفاع الإسرائيلية، فقد تعمد تل أبيب إلى ضرب مطار رفيق الحريري الدولي الذي بات المعبر الوحيد الذي يربط لبنان بالخارج في ظل قطع اسرائيل شرايين المعابر الحدودية البرية إما بالتدمير أو الحصار الجوي اللصيق.
مجزرة برجا
وفي وقت أطلق الحزب عشرات الصواريخ، وبعضها بالستي، توحّش الطيران الحربي في غاراته بقاعاً حيث وقعت ضربة على تخوم قلعة بعلبك الأثرية، وجنوباً، متسببة بمجازر عدة، قبل أن تشن سلسلة غارات متتالية وعنيفة على الضاحية الجنوبية، غداة مجزرة مروعة وقعت في بلدة برجا (الشوف) بعدما استهدفت غارة مبنى يقطنه نازحون ما أدى إلى سقوط 30 ضحية غالبيتهم من النساء والأطفال وتردّد أنها كانت لاغتيال مسؤول مالي في«حزب الله».