كان لي حديث مع أحد الأقارب من جيل الأربعينات من القرن الفائت، كان ينتقد فيه مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بالقوة، ليس لأن احتلالها عمل مشروع، لكن لأن إسرائيل قوة غاشمة مدعومة من قوى غشومة، فلا عائد من مجابهتهم غير القتل والتشريد والدمار.
وأضاف هذا القريب إلى أن هناك من هاجر من أرضه هرباً من الفقر أو فاراً من صراع باحثاً عن الأمان، فلماذا لا يكف الفلسطينيون عن مجابهتهم للمحتل وفي الأرض متسع واسع؟
نقاط بشكل عام تبدو معقولة، لكن في حالة فلسطين وفي حالة الكيان الصهيوني فهو ليس احتلال دولة لأرض من دولة أخرى مجاورة، أو صراعاً دينياً، بل هو صراع وجودي ضد أهل الأرض أي الفلسطينيين، وعليهم وعلى العرب من حولهم أن يقبلوا فيه وفي أحلامه بالتوسع من النيل إلى الفرات.
الدولة اليهودية في إسرائيل قامت بتحالف مع قوى استعمارية وبتسهيل ودعم منها، من وعد بلفور حتى تأسيس الدولة اليهودية باسم إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948، وتسهيل هجرة اليهود إليها تحت مظلة الاستعمار البريطاني، وحتى الدعم الأميركي المطلق والمجحف لهذا الكيان ليتوسع ويتوسع وتزداد هجرة اليهود إليه ليمزق المنطقة العربية ويشغلها بالحروب ويفرض ثقافاته عليها؟
إنّ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين مشروع استعماري توسعي، قام بدعم من أساطير تمهد للاحتلال، منها مقولة إن فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض أي اليهود، وهذه الأكذوبة تفندها الحقائق الموثقة دولياً، وحول ذلك أيضاً أصدر المؤلف جون روز، البريطاني الجنسية اليهودي الديانة، كتابه الشهير «أساطير الصهيونية». في مقال بعنوان «التوسع الإسرائيلي من بن غوريون إلى نتنياهو» تم نشره في صحيفة «الوطن» الكويتية - لكاتب هذه السطور- تمت الإشارة فيه إلى تصريح لنتنياهو عام 1996، وقد كان رئيساً للحكومة قال فيه إن «السؤال الذي يطرح على الدوام أين سيتوقف انسحابنا وأين سيكفون عن مطالبتنا بإعادة أجزاء من البلاد؟ ونحن الشعب اليهودي ليس أمامنا مكان نذهب إليه فهذه بلادنا».
الأرقام الموثقة دولياً تشير إلى أن عدد السكان العرب في فلسطين عام 1917 كان 600 ألف نسمة فلسطيني، مقابل 60 ألف يهودي. وتحت ظل النفوذ البريطاني ارتفعت النسبة للسكان اليهود ليصبحوا 600 ألف يهودي عام 1948 في فلسطين مقابل أكثر من مليون وثلاثمئة ألف فلسطيني في الفترة نفسها.
بعد فترة وجيزة من تأسيس الدولة اليهودية المحتلة لأرض فلسطين استمر التوسع في عدد المهاجرين اليهود القادمين من أصقاع الأرض، وازدادت المساحات التي يسيطرون عليها، ففي دراسة أعدها إسرائيل شاهاك، عام 1973، أي قبل نصف قرن، ذكر فيها «أنه لم يتبق من أصل 475 قرية فلسطينية وقعت ضمن الحدود الإسرائيلية التي أعلنتها إسرائيل عام 1949، إلّا 90 قرية فقط».
ويضيف شاهاك أن القرى «دمرت بالكامل بما فيها منازلها وأسوار الحدائق وحتى المدافن وشواهد القبور، ويقال للزوار الذين يمرون بتلك القرى إن المنطقة كانت صحراء».
إنه ليس باحتلال عادي لأرض، إنها أداة جاثمة على المنطقة العربية، تتوسطها وتتوسط العالم الاسلامي، وتتلقى الدعم من دول عظمى. ففي أحد مقاطع الفيديو يتحدث شاب عسكري إسرائيلي ويتفاخر بأنه لم يبق في منطقة قتاله رضيع فلسطيني ليقتله، يقول وهو ضاحك بأنه استطاع أن يقتل طفلة ذات اثنتي عشرة زهرة، ثم يضحك قائلاً، إنه يبحث عن رضيع ليقتله.
مقطع فيديو آخر يقارن فيه متحدث غربي بين سرعة تنفيذ الأحكام الصادرة من محكمة العدل الدولية بحق مجرمي الصرب لجرائمهم الوحشية في البوسنة، وبين حالة اللاقرار الدولية تجاه الأحكام الصادرة ضد المسؤولين الإسرائيليين على جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي يقومون بها في غزة وفي شمالها تحديداً من قتل يومي. ويقول المتحدث المذكور بأنه بدل دعم تنفيذ القرارات الجنائية الصادرة ضد المدانين من المسؤولين الإسرائيليين يكون التصفيق لهم!
فهل هناك من هضيمة وظليمة أكثر مما يحصل في فلسطين في العصر الحالي، الحقيقة أن الفلسطينيين عندما يقاتلون الاحتلال هم يقاتلون لأجل العرب ولأجل المنطقة ولأجل هويتها التاريخية العربية والمسلمة، الفلسطينيون الذين يقاتلون إسرائيل لم يجلبوا القتل والفتن للمنطقة، إنهم يضحون ليس لأجل أرضهم فقط، بل لأجل إيقاف مشروع وجودي يهدد المنطقة العربية والإسلامية برمتها، مشروع يريد للمنطقة أن تعيش غصباً مع أحلام الصهاينة الوردية في التوسع، وهو حلم وردي للصهاينة وداعميهم، وكابوس لا يُطاق لأبناء المنطقة العربية والمسلمة.