في 1978 دُمّرت «عن بكرة أبيها»

بلدة الخيام اللبنانية كأنها بلا خَيْمة وماضيها... لم يَمْضِ

23 أكتوبر 2024 05:10 م

صار لبنان بجهاته الأربع حافة حدودية، بعدما وسّعتْ آلةُ الحرب الإسرائيلية عدوانها شرقاً وغرباً وشمالاً ووسطاً، ليصبح «الوطن الصغير» كأنه الجنوب الذي «اقتيد» قبل أكثر من عام إلى معركةِ إسنادِ غزة قبل أن ينفجر الصدامُ الكبير بين إسرائيل و«حزب الله» وتشتعل النارُ في عموم البلاد.

خطُّ التماس اللبناني – الإسرائيلي الذي استرخى طويلاً منذ القرار 1701، تحوّل الآن «جبهةَ التحامٍ» بين الإسرائيليين ومقاتلي «حزب الله» موزَّعة على سبعة محاور من القتال الشرس في مَعاركَ لم تهدأ منذ أكثر من أسبوعين.

الخيام و«أخواتها» من القرى المجاورة، واحدةٌ من المَحاور التي تسجل كراً وفراً وسط غارات ثقيلة ومتوحّشة وقصفٍ مدفعي مجنون على الهضاب والوديان حتى غدت التضاريسُ لا تشبه نفسَها وكأن الماضي في الخيام التي دُمّرت يوماً عن بكرة أبيها لم يَمْضِ.

ولم يَعُدْ مفاجئاً الكلامُ عن أن التدمير المُمَنْهَجَ والهائل الذي تمارسه إسرائيل بتوحّشٍ بحق قرى الحافة الحدودية ينطوي على أبعاد تتجاوز حرب الكرّ والفرّ مع مقاتلي «حزب الله»، ويُراد منه فرْضُ قيام «حزام أمني» بالنار قبل الدبلوماسية فوق أطلال القرى والبلدات التي لم تَنْجُ من دمارٍ هائل وتهجيرٍ لأهلها.

مدينة الخيام، التي كانت على مدار أيام ماضية أشبه بـ «مستودع نار» حين قُصفت مرةً بـ 15 غارة في 14 دقيقة، هي كبرى بلدات قضاء مرجعيون (32 بلدة وقرية) ومن أولى المناطق التي إستهدفتها إسرائيل بالقصف والغارات. فكما في كل حربٍ كانت الخيام، البلدةُ التي حوّلها السلم مدينة، في مقدمةِ «بنك أهداف» الإسرائيليين الذين جعلوها يوماً معتقلاً للتعذيب إنهار سجنها يوم التحرير في العام 2000.

... «كما في كل حرب»، عبارةٌ تعني أن الإسرائيليين، ومنذ احتلال فلسطين في 1948 دأبوا على استهدافِ الخيام التي كبرتْ وتمدّدتْ عقب نهضةٍ عمرانية بدأت بعد العام 2000 واستمرّت غداة عدوان يوليو 2006 فصارت تضمّ أكثر من خمسة آلاف وحدة سكنية مع انتشار أكثر من 100 قصر ودارة في أرجائها.

وكانت إسرائيل في كل حرب تخوضها ضد لبنان تلجأ إلى «تحطيم» الخيام في شكل ممنهَج أو مقصود، إذ جرى تدميرها عن «بكرة أبيها» في العام 1978 بعد ارتكاب مجزرة بحق كبار السن والعجزة ممن رفضوا مغادرتها. ففي 17 مارس 1978 قامت بإعدام أكثر من 60 عجوزاً في ساحة البلدة بالرصاص بعد التنكيل بهم ثم دفْنهم في مقابر جماعية، بعد تهجير كامل لجميع سكانها من مسلمين ومسيحيين.

أيام الـ «توماهوك»

في عدوان يوليو 2006 لم تَسْلَم الخيام من تدمير متعمّد، إذ فاقت نسبة الدمار في نواحيها الـ40 في المئة، مع تَضَرُّر المباني والمنازل والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والدينية بمستويات مختلفة، فضلاً عن قَصْفها بصواريخ ثقيلة نوع «توماهوك» تحمل إشعاعات نووية.

كان حجم الدمار كبيراً جداً، وأعيد بناء أكثر من 3150 وحدة سكنية ومتجر بمساهمة من دولة قطر. بعد هذه الحرب صدّرت بلدية الخيام ما يزيد على 1200 إذن بالبناء، بالتنسيق مع التنظيم المدني، ما شجّع المتضررين على استثمار مبالغ التعويض في بناء بيوت بديلة من تلك التي هدّمها العدوان، مثلما شجّع المغتربين من أبناء البلدة على تشييد مباني لهم وقصور وفيلات، بلغت ما نسبته 50 في المئة من المباني الجديدة.

إلى جانب معاودة بناء البيوت، ساهمت دولة قطر يومها في بناء وترميم خمس مدارس، بعضها بُني من جديد إلى جانب مبنى البلدية وثلاثة مساجد وثلاث كنائس ومبنى التعاونية الزراعية ومصلحة المياه ومخفر الدرك، إلى تعبيد الطرق والإنارة وترميم المسلخ والشاليهات السياحية جنوب غرب البلدة.

الخيام بلا... خيمة

قبل نحو عام وفي ظل «معركة الإسناد» التي أطلقها «حزب الله» كانت الخيام عرضةً لشتى أنواع الإعتداءات الإسرائيلية من البر والجو، وسقط من أبنائها ما لا يقلّ عن 14 مقاتلاً من «حزب الله» وحركة «أمل» ومدنياً، منهم الصحافي في وكالة «رويترز» الشهيد عصام بسام حسن خليل عبدالله (37 عاماً) الذي قتلته قذيفة إسرائيلية في الـ13 أكتوبر 2023 قرب بلدة علما الشعب بينما كان يقوم بواجبه المهني وشيع في بلدته الخيام.

وبسبب عنف الغارات في أول أيام «إسناد غزة» نَزَحَ جميع سكان الخيام وانتشروا عند أقرباء لهم أو في بيوت مستأجرة في العاصمة بيروت وفي بلدات قضاء النبطية وجوار مدينة صيدا قبل ان تدفعهم الحرب الأوسع إلى النزوح من جديد. وبات بعضهم يشاهد دمار بيته وجنى عمره من خلال صور و«فيديوات» يتناقلها ناشطون أو عناصر من الدفاع المدني تمكّنوا من معاينتها.

كأنها في المعتقل من جديد

الخيام التي «تعتقلها» غارات الطيران المتوحش ليلَ نهارٍ زاد شهرتَها «معتقلُ الخيام» الذي تحول بعد التحرير في العام 2000 إلى محجة، أمّتْه آلاف الوفود والزوار من جميع المناطق اللبنانية، ومن أصقاع الأرض، والعوالم العربية والأميركية والأوروبية، تتقدّمهم النخب العلمية والثقافية والبرلمانية والبعثات الإنسانية، وكان منهم العالِم نوام تشومسكي والمفكّر إدوار سعيد والمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد وغيرهم، لمعاينة الزنازين وأعمدة التعذيب الشاهدة على آلاف الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين والمقاومين ممّن زَجّ بهم العدو الإسرائيلي والميليشيات المتعاملة معه في أقبيته وقضى عدد منهم تحت التعذيب.

المعتقل الذي عاود الطيرانُ الإسرائيلي قصفَه الآن، كان بناه الفرنسيون ثكنةً لهم عام 1933، كي تكون مقراً لقواتهم المرابطة في منطقة الجنوب اللبناني، على تلّ يشرف على بلدة الخيام ويطلّ بصورة كاملة على منطقة إصبع الجليل في شمال فلسطين من جهة، وعلى مرتفعات الجولان من جهة ثانية. وتحولت الثكنة إبان استقلال لبنان عام 1943 إلى ثكنة للجيش اللبناني.

ظلت الثكنة كذلك حتى مارس 1978، عندما اجتاحت إسرائيل أجزاء واسعة من الجنوب ونفّذت مع المليشيات التابعة لها عملية تدمير منهجية بحق الخيام بعد تهجير أهلها. وتسلّمت الثكنةَ الميليشياتُ لتُعتمد بعد اجتياح لبنان العام 1982 مركزاً للتحقيق، ثم معتقلاً بديلاً عن معتقل أنصار (أقفلتْه في 4 أبريل 1985) تحت اسم «معتقل الخيام»، وزُجّ فيه آلاف المعتقلين اللبنانيين والمقاومين الذين تعرّضوا لأعتى أساليب التعذيب والقهر، حتى تاريخ تحررهم منه في 23 مايو 2000.

في حرب 2006 تبدّل المعتقل بعد تعرّضه لتدميرٍ كلّي بفعل مئات الغارات من الطائرات الحربية الإسرائيلية، ما قوّض زنزاناتِه وقاعاتِه وباحاتِه، وغيّر معالَمه، ولم يبقَ من العناوين البنائية والرمزية التي كانت تندرج ضمن مسارات التدليل على ممارسات العدو، إلا بعض الزوايا والأطلال.

التاريخ «يجتر» نفسه

في 16 سبتمبر 1977 اتخذت قوات الاحتلال الإسرائيلي موقعاً لها على هضبةٍ مطلة على الخيام، في محاولةٍ لضمّها إلى الاحتلال؛ وتكرر الهجوم على البلدة في 23 سبتمبر 1977. واستمرت المعركة بين ميليشيات سعد حداد، المنشقّ عن الجيش اللبناني والملتحق بالقوات الإسرائيلية، من جهة وبين والقوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية من جهة أخرى. وفي 14 مارس 1978 دخل العدو الى الخيام بعد قصف عنيف، واستمرّت الاعتداءات. وبعد ثلاثة أيام، في 17 مارس نفذت عناصر ميليشيا سعد حداد مجزرةَ الخيام على مرأى من القيادة الإسرائيلية.

وبعد عودة أبناء الخيام إليها، عقب احتلال العام 1982 جرى تجميع ما عُثر عليه من رفاتٍ للضحايا وطمْرها في زاوية عند مدخل مقبرة البلدة، ورُفعت العام 2018 لائحةٌ رخامية تعرّف عنهم بشهداء مجزرة الخيام، أو «مقبرة الشهداء».

إرث بريطاني يتهالك

بنى الإنكليز مطار «المرج» بين عامي 1942 و1943، بين الخيام ومرجعيون والقليعة وبرج الملوك ومستعمرة «المطلة» شمال فلسطين المحتلة، لأغراض عسكرية وحربية. وراحتْ معالمه تنهار شيئاً فشيئاً، مثلما ذوت ذكرياتُه في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

لم يؤدّ مطار المرج، وهي التسمية التي يردّدها سكان المنطقة والجوار، الغرضَ المنشود من بنائه في مثلث استراتيجي بين لبنان وفلسطين وسورية، كوسيطٍ للطائرات المهاجمة نحو مصر لأغراض حربية وعسكرية ولعرقلة تقدم الجيوش بينها وبين جاراتها من الدول العربية.

بقيت منطقة المطار، جنوب سهل الخيام، في نزاعٍ دائم، وتداخلت الحقوق وتباعدت، في وقتٍ أحكمت إسرائيل سيطرتها على الجزء الجنوبي من المطار والسهل بعد عدوان 1978 ثم استعاد لبنان الأراضي المقتطَعة أثناء ترسيم الخط الأزرق بعد العام 2000.

وبنى الجيش البريطاني، المستشفى الإنكليزي التاريخي في باطن محلة الخرايب غرب مدينة الخيام، عشية هجومه من ناحية فلسطين، بتحصيناتٍ متطورة في أيام الحرب العالمية الثانية العام 1941، ومهمته استقبال المصابين من الجيش في الحرب، المصطدم مع الجنود الفرنسيين «الفيشيين» المتمرْكزين في مرجعيون؛ غير أن الحرب انتهت بعد واحد وأربعين يوماً، ولم ينتهِ العملُ في المستشفى، فتُرك على حاله، عرضةً للتفكيك والإهمال.

رممت مؤسسة «مرسي كور» عام 2004 المبنى القائم على مساحة 8770 متراً مربعاً، في محيط يتجاوز 10700 متر مربع بغية تحويله إلى متحف حربي. وغطت أعمالُ التأهيل، ثلاثين غرفة متفاوتة المساحات، وانتهى العمل في خريف 2005 بتكلفة بلغت نحو مليون دولار أميركي.

وتحوّل المستشفى الإنكليزي في يوليو 2006، بعد نحو عام على جعْله متحفاً شعبياً وتاريخياً وسياحياً، خراباً لا يمكن ترميمه، بعدما دكّته طائرات العدو الإسرائيلي بمئات الأطنان من القذائف المدمّرة.