يكاد أن يكون تاريخُ لبنان مجرد حكايا تراجيدية لجماعاتٍ تَهاوتْ زعاماتُها في لحظات غدرٍ وتُركت لشأنها وكأنها «يتيمة» تُلاطِمُ الحزنَ والضياعَ ويأخذها الإنكارُ إلى الخرافة مع عدم التصديق والإغراق فيه.
فلبنان، الذي يحطّم الرقم القياسي كـ «الساحة» الأكثر سفكاً للدماء في الشرق الأوسط عبر الجريمة السياسية التي أرْدت سياسيين وصحافيين وقادة رأي والجرائم الإسرائيلية المتوالية، لم تُشْفَ الذاكرةُ الجَماعية لجماعاته من الغدر بزعاماتها التي تحوّلت كأبطال الأساطير.
... من رياض الصلح، إلى حسن نصرالله، شلالُ دمٍ تهاوى في بحره رؤساء جمهورية وحكومات وجمْهَرَةٌ من السياسيين وحشدٌ من الصحافيين، ولكن الأكثر تجسيداً لـ «التراجيديا» كان سقوطُ الزعامات وإنكار موتهم لشدّة الاستقطاب العاطفي والطائفي لجماعاتهم.
وباغتيال الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، تكتملُ حلقةُ نكباتِ الطوائف الكبرى في لبنان التي عانت انتكاسات مع انكسار زعامات برصاصٍ فتّاك، أو أطنان المتفجّرات وصواريخ الطائرات.
من كمال جنبلاط، «المعلّم» الذي لن يتكرّر عند طائفة الموحدين الدروز، مروراً ببشير الجميل «الرئيس (المسيحي) الحلم» الذي لم يتحقق، ورفيق الحريري القامة التي لم تَعرف مثلها الطائفة السنية في لبنان، وصولاً إلى نصرالله الذي تحوّل رمزاً لبيئته من الشيعة التي تكوكبت خلفه. كل طائفةٍ في «بلاد الأرز» شعرت في يوم من الأيام باليتم بعد رحيل زعيمها، ومرت بحال النكران ذاتها ثم الغضب وبعدها المساومة فالقبول بالواقع.
لكن كل رحيل ترك مكانه فراغاً كان من الصعب أن يُعوّض وغيّر في مسيرة لبنان ومساره التاريخي. فماذا لو بقي الجميل حياً؟ وماذا لو لم تَغتل يدُ الغدر جنبلاط؟ وأي مستقبل كان للبنان لو لم يتم شطب الحريري؟
ولايزال السؤال مبكراً ولكنه مشروع: كيف سيغير رحيل نصرالله واقع لبنان ومستقبله؟
«رحل الرمز ووُلدت الأسطورة». هكذا نعى سليمان فرنجية «سيّد المقاومة». لكن قبل أن تولد «الأسطورة» كان لا بد أن تتمخّض في الشارع ووسط الناس.
رحيل نصرالله كان الحدث الذي طغى على الموت الذي يلفّ لبنان.
حال من الصدمة والذهول والإنكار نزلتْ على جمهوره كصاعقةٍ أصابتهم في الصميم وأفقدتهم التوازن. العاشقون والكارهون ومَن يقف بينهما لم يعرفوا كيف يتعاملون مع خبرٍ بدا أكبر من أن يُصدق.
ظلوا يكذّبون الظن والمنطق لساعات طوال حتى دقّت ساعة الحقيقة وأُعلن خبر مقتل الأمين العام لـ «حزب الله» رسمياً لتنفجر بعده موجة عارمة من اللوعة والحزن والنكران والخوف.
مسيراتٌ عفوية غاضبة خرجت في بعض أحياء الضاحية الجنوبية تُنادي السيد كما لو كان يتصدّرها «لبيك نصرالله، لبيك نصرالله».
هتافات رددها السائرون بصوت واحد وقبضات مرفوعة مستعدّة لتلبية النداء. عياراتٌ نارية تٌطلق في الهواء وَجد فيها مطلقوها التعبير الأقوى عن غضبهم قبل حزنهم.
نساء يرتمين على الأرض نائحات، يلطمن الخدود والرؤوس في مشهد حزين. «السيد لم يمت، لا يمكن أن يموت، لا يمكن أن أصدق أنه مات»، عبارة قالتْها إحدى النسوة النازحات إلى وسط بيروت واختصرت فيها حال كثيرين.
الناس الذين رافق حضورُ نصرالله طفولتهم وشبابهم وكهولتهم وصار جزءاً من كيانهم ويومياتهم يرفضون التصديق، ويجدون العزاء في حالة الإنكار التي يعيشونها.
«لا يمكن للسيد أن يتركنا وحيدين، سيَظهر في أي لحظة ليُطَمْئننا عنه. لا يمكن أن يقع في فخ الإسرائيلي»، يقولها الحاج مهدّئاً ومُطَمْئناً كل مَن حوله.
نساء يتحدّثن عن معجزة لا بد أن تحصل، ويتوغلن بعيداً في الخرافة لأنها البلسم الوحيد لواقع قاس لا يَحتمل التصديق.
النكران حالة يعرفها علم النفس ويحدّدها بالقول إنها رد الفعل الأول بعد فقدان عزيز، ويشكّل نوعاً من الدفاع يساعد على صمود الشخص ويمنحه الوقت لاستيعاب الصدمة فإما النكران أو الانهيار. وبعده تأتي حال الغضب على واقع الفقد الأليم.
غضبٌ زاد من استعاره الطريقة الوحشية التي تمت فيها عملية الاغتيال. لم يستطع مناصرو حزب الله أن يصدّقوا أن العدو وصل إلى السيد «هو الذي استطاع التلاعب به لعقود وانتصر عليه في محطات كثيرة». وهكذا بدت الجريمة هزيمةً، نكسةً، نكبةً لا تتقبلها بيئة «حزب الله».
مَن تخطوا حال النكران غرقوا في الأسى واللوعة كما في الخوف والقلق على مصيرٍ مجهول مع إصرارٍ على التعبير عن «الرغبة في إكمال المقاومة مهما غلت التضحيات».
وتتساءل إحدى النسوة على صفحتها على «فيسبوك»... كيف ستشرق شمسنا يا سيدي وكيف سيكون حال أمتنا ودنيانا؟
ومع الحزن ساد الخوفُ على ما يمكن أن يحدث في الحاضر والمستقبل «مَن يحمينا بعده ؟ مَن يحفظ كياننا وكرامتنا؟ ماذا لو هَجم علينا الأعداء والخصوم»؟
أسئلة يتناقلها المناصرون سراً وعلناً.
كلام كثير يسيل على مواقع التواصل كما يسيل الدمع من العيون. فيديوهات تُنشر عن ردات فعل بيئة «حزب الله» عند سماعهم بيان النعي الرسمي: بكاء ولطم وانهيار... صعب الكلام عن صمود واستمرار في لحظة الفقد الأولى... الوعود تأتي لاحقاً بعد أن يتم استيعاب الصدمة والعودة إلى المنطق والذات. في علم النفس تُسمى هذه المرحلة بالمساومة وإن كان اسمها لا يعبّر بصدق عن الحالة التي يعيشها الناس ومناصرو الحزب بشكل خاص.
فمرحلة المساومة هي خط دفاع ضد مشاعر الفقد تتسم بالندم والأمل والمحاولة لاسترداد المفقود عبر فعل أي شيء وتقديم أي تضحية لعودة الحياة لِما كانت عليه قبل الفقد.
رحيل نصرالله لم يترك أحداً لا مبالياً في لبنان كما خارج. وحتى خصومه في الداخل لايزالون في حالة من الذهول: هل يمكن لهذه الشخصية القيادية التي شغلت الجميع أن ترحل في غضون بضع دقائق؟
ويروي أحد الشبان من حزبٍ خصم«لا أستطيع تحديد الشعور الذي ينتابني. هو نوع من الحزن لم أكن أتوقّعه. هالة نصرالله تَمنعني من الشماتة، فالرجل كان وجهاً أساسياً في حياة لبنان وحياتنا. خاصمناه طويلاً لكنني حزنت لموته بهذه الطريقة».
بعضهم قفز فوق الحزن الإنساني وبدا كمن يقنع نفسه بمشاعر أخرى يسعى لإيجاد تبريرات لها: أليس هو مَن تسبَّب وحزبه بمقتل فلان وفلان وفلان؟ أليس هو مَن خاض حروباً أوصلتْنا إلى ما نحن عليه؟ أليس هو مَن تدخل في سورية والعراق واليمن وغيرها وتسبّب بمآس كثيرة؟
أسئلة مفهومة ومشروعة لكنها لا تلغي ذاك الشعور بالفقد. «كأنها متلازمة ستوكهولم»، يقول آخَر «نحن المخطوفون في لبنان بتنا نتعاطف مع الخاطف ونحزن لمغادرته. لم نصدّق أننا يمكن أن نتأثّر لرحيل حسن نصرالله».