نجحت إسرائيل في جر «حزب الله» إلى التصعيد ليذهب نحو الحرب الشاملة تدريجاً لأن المبادرةَ أصبحتْ بيد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
فإسرائيل لم تعد معنيةً بقرار الحزب وقواعد الاشتباك التي رَسَمَها منذ بداية الحرب بعد إدخال وزير الدفاع يوآف غالانت معادلة «استهداف ضاحية بيروت مقابل عودة سكان الشمال».
فإذا أراد الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله الذهابَ نحو ردٍّ تَدَحْرجي فهذا يعنيه هو فقط، في نظر نتنياهو كما يبدو، الذي اتخذ قراره على أساس إزاحة السقوف العسكرية الموجودة، ولم يَعد يبالي بالذهاب نحو حرب شاملة للابتعاد عن أزمته الداخلية وإخفاقه بتحقيق أهدافه في غزة على حساب جر المنطقة وأميركا خلفه.
استطاعتْ الاستخبارات الإسرائيلية الوقوفَ على معلوماتٍ آنية ودقيقة عن وجود قائد «وحدة الرضوان» في المجلس الجهادي والقادة الميدانيين في اجتماعٍ داخل مركز معروف لهم استمرّ لساعات طويلة وكان بدأ صباحاً.
وأتاح طول مدة الاجتماع والتحرّك المتكرّر من المكان ذهاباً وإياباً لعناصر قيادية وعسكرية، للاستخبارات البشرية تسريب المعلومات لإسرائيل فجهّزتْ طائراتها الحربية وصواريخ أميركية الصنع خارقة للتحصينات لتضرب وتدمّر مبنييْن سكنيين، بما فيهما مركز الاجتماع في الطابق الثاني السفلي في الضاحية الجنوبية على مسافة قريبة من مسجد القائم.
وقد سقط على الأقل 31 شخصاً (لم يكن تم بعد التعرف على أشلاء لآخَرين إلى جانب مفقودين تحت الركام) بينهم قياديون و 13 عنصراً وأطفال ونساء ونازحون سوريون وعشرات الجرحى.
ومن المعروف أن عِلْم الحرب يقضي بضرب منظومة التحكّم والسيطرة والاتصالات ابتداءً لتتبعها ضربةٌ لمنظومة الحرب والقيادة العسكرية.
إلا أنّ اتصالات الحزب بمجملها سلكية وقوات «الرضوان» لا تشارك في المعركة الدائرة على الحدود كدعمٍ لغزة لأن الوحدات الصاروخية هي المسؤولة عن الاشتباك الناري الدائر، في حين أن الوحدات الخاصة وقادتها على الأرض موجودون في الجنوب والبقاع والحدود السورية للتصدي لأي محاولة تقدُّم إسرائيلية داخل لبنان.
ويَعتبر «حزب الله» هذه الضربة بمثابة تغيير واضح في قواعد الاشتباك يحرف النظر عن فلسطين وغزة ويخرق جميع الخطوط الحمر التي وُضعت في بداية الحرب وكانت تقضي بأن ضرب الضاحية الجنوبية سيقابله ضرب تل أبيب.
إلا أن حرص الحزب على عدم الذهاب نحو الحرب المفتوحة دَفَعه لعدم ترجمة هذه المعادلة عند اغتيال القائد في «حماس» صالح العاروري مطلع العام الجاري، ثم بعد اغتيال القائد في المجلس الجهادي فؤاد شكر قبل شهرين، حتى ولو كان الردّ (على اغتيال شكر) أصاب مركز الاستخبارات، وحدة 8200 في شمال تل أبيب. وهذا ما جَعَلَ نتنياهو يعتبر أن الثمن يحتمل، الأمر الذي دفعه إلى معادلة أخرى للاستمرار في ضرب أهداف عسكرية يرى أنها مهمة وأن مَن يسقط من المدنيين يُعتبرون أضراراً جانبية ما دام يملك التفوق الجوي المطلق وذخائر لطائراته لا تنضب بدعمٍ من جسر أميركي (وأوروبي) يمده بما يحتاج إليه من عشرات آلاف الأطنان من الصواريخ الاعتراضية والهجومية.
وتَعتبر إسرائيل أن باستطاعة صواريخها الاعتراضية تقليلَ أضرار الهجمات الصاروخية في جزء كبير منها. ولذلك فإن استخدام أسلوب تهجير مليون نسمة من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت قد يكون رافعةً لإعادة مئة ألف مستوطن إسرائيلي إلى الشمال، ما سيدفع - وفق حسابات تل أبيب - إلى تسوية مريحة تكون اليد العليا فيها لنتنياهو وبما سيَضمن حمايته السياسية كبطلٍ قومي استطاع إخضاع أعدائه من غزة إلى لبنان وسورية واليمن وإيران.
ولكن الحرب دخلت «مرحلة مختلفة»، كما قال غالانت، وهي مرحلة جديدة تشمل الطرفين. إذ إن الحزب لن يقبل بالمعادلة الجديدة والتي، إذا لم يردّ بيد من حديد فإن الطائرات الإسرائيلية ستضرب مئات الأهداف التي تُقدّم لها داخل الضاحية الجنوبية حيث توجد مراكز للحزب وقيادات متعددة تشكل العمود الفقري له.
وإذا ردّ «حزب الله»، فإن إسرائيل ستردّ على الرد، ما سيدحرج الأمور إلى مستوى تصعيدي غير مسبوق بسبب انعدام أي خيار آخر. ومن هنا فإن حرب الاستنزاف الدائرة لم تعد مقبولة.
إنها الحرب الأكثر تعقيداً التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً أن إسرائيل هي التي تديرها وتخوضها لمدةٍ لم تختبرها من قبل.
وما زاد الطين بلة أن إيران، بعدما رأت ما تقوم به إسرائيل من تصعيد، قررتْ الإعلان على لسان أعلى سلطة لديها، السيد علي خامنئي، في هذا الوقت بالذات أنها «سترد على اغتيال إسماعيل هنية» في طهران نهاية يوليو الماضي.
وهذا ما استوجب رداً أميركياً مفاجئاً بالإعلان عن عودة حاملة طائراتها مع القوة البحرية المرافقة إلى الشرق الأوسط من جديد.
ولن يغيّر التدخل الأميركي شيئاً في معادلة الأيديولوجيا لإيران وحلفائها في العراق واليمن وسورية ولبنان الذين لن يترددوا في المشاركة جميعاً بهذه المعادلة التي أرادتْها إسرائيل وجذبت الجميع إليها حيث تريدهم لإنقاذ مستقبل نتنياهو.
إنها مسألة وجود لهذا الحلف العقائدي الذي يرتبط بعلاقة عضوية ولن يقبل بأن يُهزم أحد أطرافه من دون تدخل الآخَرين وبقوة.
لكن هذه المرة، فإن هذا الحلف يملك ما يؤلم إسرائيل حتى ولو امتلكت قوة هائلة مدعومةً من أميركا التي لن تنأى بنفسها عن الدعم المطلق لإسرائيل.
فواشنطن تدعم إنهاء «حماس» و«حزب الله» وجميع حلفاء إيران. إلا أنه من المتوقع ألّا يكون وجودها في الشرق الأوسط بعيداً عن المعركة ونتائجها المدمّرة.
ويملك الحزب خيارات واسعةً صاروخيةً لن يتردّد في استخدامها لأن غرض اقتنائها سببه استعمالها في أرض المعركة التي يبدو أنها فُرضت عليه منذ السابع من أكتوبر كجبهةِ مساندة لغزة إلى أن صعّدتْ إسرائيل ضرباتها داخل العاصمة اللبنانية فتحوّلت معركة مفتوحة وعلى لبنان.
ومما لا شك فيه أن الحرب الشاملة لم تعد مستحيلة ولكن في شكل مختلف من الممكن ألّا يبدأ باجتياح أراضٍ لبنانية، بل بقصف متواصل جوي يقابله قصف صاروخي من جبهات ودول مختلفة لأن إشارات الحرب المفتوحة أصبحت واضحة وجاهزة.