بلغتْ السلطةُ النقدية في لبنان الشوطَ ما قبل الأخير في سِباق تَلافي إقدام مجموعة العمل المالي الدولية (فاتف) على إدراج «بلاد الأرز» ضمن القائمة «الرمادية» التي تضم البلدان غير المتعاونة بالكامل في الاستجابة لمعالجة أوجه القصور في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ويسود قلقٌ مشروعٌ في أوساط القطاع المالي من ترجيح صدور القرار خلال الاجتماع الدوري نصف السنوي للمجموعة الدولية خلال سبتمبر الجاري، فيما يُعوّل على الجهود المستمرة من حاكمية البنك المركزي للاستحصال على مهلة إضافية لغاية اجتماعات الربيع المقبل، ارتكازاً على تأثير الشلل السياسي الداخلي والمواجهات العسكرية في الجنوب على تأخير الاستجابة للمعالجات المطلوبة من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وقد عانى لبنان من هذه التجربة المريرة في مطلع الألفية الثانية، ما فرض على سلطاته إنشاء منظومة متكاملة أفضت إلى إلغاء تصنيفه ضمن لائحة الدول غير المتعاونة في محاربة تبييض الأموال منذ العام 2002. ليتبوأ لاحقاً أول رئاسة (الدكتور محمد بعاصيري) لمجموعة العمل المالي الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعدما ساهم بفعالية في تأسيسها وانطلاقها أواخر العام 2004.
ووفق معلومات خاصة لـ «الراي»، فإن الجهود الحثيثة لحاكمية البنك المركزي تحقق اختراقاً واعداً في عواصم القرار المالي الدولي، يؤمل أن يفضي الى واحدة من نتيجتين غير مؤلمتين، فإما يكون الهبوط آمنا إلى حد ما في اللائحة الرمادية في حال استنفاد المهل واتخاذ القرار، وإما يجري اعتماد السيناريو الأفضل، انما غير المضمون حتى الساعة، لجهة تمكين لبنان من الحصول على وقت إضافي لاستكمال مهمة سد الثغر المحدَّدة.
وبالفعل، يستكمل حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري جهوده الميدانية، حيث يلتقي أوائل هذا الشهر في لندن رؤساء ومديرين في بنوك دولية مُراسِلة، ضمن مبادرة المساعي التي بدأها في واشنطن أواخر الشهر الماضي مع المرجعيات المالية الدولية للمعاونة في استمرار انسيابِ المعاملات المالية عبر القنوات المعتمدة، بعدما تأكدت من كفاءة القطاع المالي المحلي وصرامته في تطبيق المعايير الدولية في منع مرور أي عمليات مشبوهة.
كما تواظب هيئة التحقيق الخاصة التي يترأسها الحاكم، على تزويد المجموعتين الدولية والإقليمية بالوثائق والمستندات ذات الصلة بمعالجة أوجه القصور، ولا سيما المحقَّق بينها لجهة إصدار القرارات الخاصة بتجميد حسابات عائدة لمسؤولين كبار سابقين وحاليين في قطاعات مدنية وغير مدنية، والمنشود تحقيقه وفق جداول زمنية محددة بالتعاون مع السلطتين التشريعية والتنفيذية. فضلاً عن موجبات تطوير إجراءات الاستجابة لدى القضاء والمحاكم وكتّاب العدل وسواهم من مكوّنات السلطة القضائية.
وتتركز جهود السلطة النقدية في هذه المرحلة الحرجة، على تحييد خطوط تواصل القطاع المالي مع الخارج عن أي مستجدات حربية كانت أو مهنية، ولا سيما مع شبكة البنوك العالمية المراسلة، توخياً لمنع الانزلاق الى إرباكاتٍ مؤذية تصيب حركة التحويلات المالية عبر الحدود، وبحيث يتمدّد الضرر الأقسى الى منظومة الاستيراد والتصدير وخطوط الإمداد بالمواد الأساسية والمحروقات وسواها.
ويقر منصوري بأن الأزمات القائمة أنتجت حالة من عدم الثقة لدى المواطنين والمودعين، ما حرف النشاط الاقتصادي إلى خارج النظام المصرفي وأصبح نقدياً بمجمله، وبحيث يعكس الاقتصاد النقدي المدولر تحولاً سريعاً نحو المعاملات النقدية بالعملات الصعبة، وزيادة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، ما يشكّل خطراً كبيراً على الدولة ويهدد بعكس مسار التقدم الذي حققه لبنان في مجال مكافحة تبييض الأموال في القطاع المصرفي.
كما يؤكد رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب الدكتور جوزف طربيه أنّ «الإجراءات التي اتخذتها المصارف اللبنانية للتكييف مع الأزمة، دفعت بفئة كبيرة من اللبنانيين إلى تفضيل المعاملات النقدية على الطرق المصرفية التقليدية، وهذا يضع بلدنا أمام المزيد من الجرائم المالية خاصة غسل الأموال وتمويل الإرهاب».
ويشير إلى أنّ «غياب أي خطة حكومية للتعافي تتضمن إستراتيجية نهوض للقطاع مصرفي موثوقة، وقادرة على الاستمرار، يعوق النمو الاقتصادي واسترداد الودائع، وأي برنامج على هذا الصعيد ينبغي أن يكون ملائماً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً حتى يُكتب له النجاح، وهذا ما جعل الانطلاقة السابقة لكل مشاريع إعادة الهيكلة تسقط، لعدم تمتّعها بهذه المواصفات».
عموماً ليس مستجداً أن يخضع لبنان، كما سائر البلدان، تلقائياً ودورياً لمزيد من التدقيق من المجتمع الدولي، ولا سيما الأميركي والأوروبي، وفق ما نوّه منصوري (في كلمته في افتتاح «الملتقى السنوي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب: تداعيات الاقتصاد النقدي على النظام المصرفي»، في فندق فينيسيا في بيروت(قبل أيام) مضيفاً:«ولهذه الغاية، يقوم المصرف المركزي بمتابعة التطورات في المنطقة بغية إصدار التعاميم اللازمة ضمن صلاحياته، ويقترح على الحكومة إجراء تعديلات على القوانين السارية وقوانين جديدة، ليبقى لبنان مندمجاً في النظام المالي العالمي».
وقد أدخل مصرف لبنان أخيراً، وفق الاشعارات التي تم إبلاغها الى الهيئات الرقابية الدولية، تعديلات مهمة على نظام مراقبة العمليات المالية والمصرفية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وتركز هذه التعديلات بشكل رئيسي على تعزيز إجراءات البنوك لمكافحة الفساد والرشوة من خلال إلزامها بانشاء مصلحتين ضمن«وحدة التحقق»، الأولى تشرف على المركز الرئيسي وفروع المصرف للتأكد من التزامها بإجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
أما الإدارة الثانية فتعنى بـمكافحة جرائم الفساد والرشوة من خلال تنفيذ إجراءات العناية الواجبة المعززة للعملاء المعرّضين لمخاطر مرتفعة في الفساد والرشوة، وتدريب الموظفين على تحسين مهارات تحديد الأنشطة المشبوهة والإبلاغ عنها، وتطوير سياسات وإجراءات شاملة لمنع واكتشاف الفساد والرشوة، وإجراء تقييمات دورية للمخاطر لتحديد وتخفيف مخاطر الفساد، وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة عن أي حالات مشبوهة.
كما يعمل مصرف لبنان ومنذ فترة على تطبيق إجراءات لتعزيز استخدام وسائل الدفع الإلكترونية بهدف تقليل الاعتماد على النقد في السوق اللبناني، وكلها مبادرات تتماشى مع المعايير الدولية، لا سيما التي تهدف إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ولذلك، أصدر مصرف لبنان التعميم 165 الذي أتاح فتح حسابات جديدة بالأموال النقدية بالدولار والليرة اللبنانية لاستعمالها لتسوية التحاويل المصرفية الإلكترونية الخاصة بالأموال النقدية وتسوية مقاصة الشيكات التي يتم تداولها أيضا بالأموال النقدية، ما يحد من محاولات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ويحجم الاقتصاد النقدي.
ويحوز لبنان، وفق توصيف منصوري، بنيةً قانونية وإجرائية قوية في الاستجابة للمعايير الدولية المطلوبة، بعدما أقر مجلس النواب اللبناني عدداً من القوانين في العام 2015، منها قانون الانضمام الى اتفاقية الأمم المتحدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب، وتعديل قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وقانون التصريح عن نقل الأموال عبر الحدود، وقانون تبادل المعلومات الضريبية، الأمر الذي كان له وقع إيجابي لدى المنظمات الدولية في ما يتعلقّ بسمعة لبنان وقطاعه المالي والمصرفي، لا سيما وضعية امتثاله بالمعايير الدولية.
كذلك صدر قانون مكافحة الفساد في القطاع العام العام 2020، وأنُشئت بموجبه الهيئة الوطنيةّ لمكافحة الفساد رسمياً. وأقر مجلس النواب في 2021 القانون الخاص باستعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد.
ومن جهته، عمد مصرف لبنان الى إصدار التعاميم اللازمة تباعاً لمواكبة هذه التشريعات وتحصين المصارف والمؤسسات المالية اللبنانية. لكن الأعوام الماضية كانت حافلة بالصعوبات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والأمنية الناتجة عن الأزمة المتعددة الوجه التي ألمّت بلبنان والتأخير في تنفيذ الإصلاحات المنشودة. أضف الى ذلك تدهورالأوضاع الجيوسياسية أخيراً جراء الحرب المستمرة على غزة وجنوب لبنان وتداعياتها الملموسة على الوضع الاقتصادي في البلد.