جاء من خارج النادي التقليدي و«حَفَرَ» تجربةً بيد بيضاء ونجا من محاولة اغتيال

سليم الحص.. غاب «الضمير» الحاضر دائماً

26 أغسطس 2024 04:30 م

مع الوداع الرسمي لرئيس الوزراء الأسبق الدكتور سليم الحص، خشي كثيرون في «بلاد الأرز» أن تكون «دُفنت» مع «ضمير لبنان» خصالٌ من زمن «رجال الدولة» لطالما شكّلتْ «وديعةَ» الراحل في الحياة السياسية على امتداد مسيرته المرصّعة بالنزاهة ونظافة الكف.

وكان اللبنانيون وهم يتابعون المأتمَ الرسمي الذي أقيم للرئيس الحص في مسجد مقام الإمام الأوزاعي وكأنّهم يتحسّرون على ماضٍ ليس ببعيد انطبع بقاماتٍ، ولو اختلف معها البعض في السياسة، إلا أن اثنان لا يختلفان على أنها حفرتْ اسمَها بحروف من استقامة وبيد بيضاء لم تتغمس بالدم المسفوك للبلاد وناسها ولا بالفساد الذي تفشّى في كل مفاصلها وهَدَرَ هيْبة الدولة وقوّض ركائزها.

مجلَّلاً بالعلم اللبناني ومحمولاً على عربة مدفع، نُقل جثمان الراحل بمواكبة من قوى الأمن الداخلي في موكب انطلق من مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت الى مسجد مقام الإمام الأوزاعي حيث أقيمت مراسم التشييع التي ظلّلتْها دمعة على مَن كان دائماً شمعةً في عتمةِ الاقتتال الداخلي وعلى كعكة السلطة والمصالح.

في باحة المسجد عند وصول الجثمان، وبعدما أدت كتيبة من قوى الأمن الداخلي التحية للفقيد وعزفت موسيقى لحن الموتى، أمّ مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان المصلين على جثمان الفقيد، فيما بدا الحضورُ الذي تقدّمه رئيس الوزراء نجيب ميقاتي وممثلٌ لرئيس مجلس النواب نبيه بري، والرئيسان فؤاد السنيورة وحسان دياب وممثلان للرئيسين سعد الحريري وتمام سلام ووزراء ونواب حاليين وسابقين وسفراء وشخصيات سياسية وروحية واقتصادية ومالية وثقافية واجتماعية وقضائية وعسكرية ونقابية وإعلامية، وكأنه يؤدّي تحية إجلالٍ لشخصيةٍ كسبت رهان الثبات على القِيم والمبادئ «عكس كل الظروف» في غالبية الأحيان ففازت باحترام الخارج والداخل، في عزّ الاحتراب الداخلي كما مراحل الانقسام السياسي في جمهورية الطائف.

ولطالما انطبع الرئيس الحص بقوله «اللعبة السياسية في لبنان تكاد تكون لعبة بلا قواعد، بلا ضوابط، تجوز فيها كل الممارسات.

كما يمارسها بعض لاعبيها، تكاد تكون بلا شريعة، فهم يواصلون اللعبة، يواصلون التناحر والمزايدة، والتهافت على تسجيل الإنتصارات الصغيرة، ولو كان ذلك على حساب مصير شعب وطن، وعلى حساب حياة المواطن وهنائه».

وكأن كلام الحص العام 1994، يروي اليومَ التناحر المستمرّ واللعب بمصير شعب ووطن.

هو الذي أتى من خارج النادي التقليدي والوراثة السياسية، من عالم المال والمصارف، من دون شبهات مالية ولا تهم فساد، ليصبح واحداً من رؤساء الحكومات الذين تركوا بصمة في الممارسة السياسية حتى خارج العمل الحكومي أو النيابي، فظلّ «سليم الحص» مرجعيةً ولو من دون ألقاب.

الرجل الذي وُلد تقريباً مع انطلاقة لبنان الكبير عام 1929، رافق محطات ازدهار لبنان وتحولاته التاريخية قبل اندلاع الحرب وبعدها، إلى حين اعتزل العمل السياسي، يوم خسر الانتخابات النيابية في بيروت عام 2000.

قال المعارض الشرس لسياسة الرئيس الشهيد رفيق الحريري المالية والذي سقط في مقابل فوز كاسح للوائحه، لحظةَ إعلان عزوفه عن السياسة بالمعنى المتعارَف عليه: «في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية، وعلى الرغم من انهم يحاولون إلغائي سياسياً فلن يستطيعوا محو سجلّي الوطني الطويل من ذاكرة هذا الوطن».

إقتصاديّ من طراز رفيع، أستاذ جامعي، مثقّف ولائق، بدأ حياته السياسية عكْس المتعارف عليه، رئيساً للوزراء ثم وزيراً فنائباً. منذ عام 1976 أصبح أحد الوجوه البارزة في الحياة اللبنانية والعربية، وطنيّ، عروبيّ، منحاز إلى القضية الفلسطينية ارتبط إسمه بمراحل حساسة من تاريخ لبنان الحديث، ورافق ثلاثة رؤساء للجمهورية عن قرب، الياس سركيس، أمين الجميل وإميل لحود.

لم يأتِ الحص من عائلة سياسية، ولا هو وريث إقطاع أو بيت سياسي. أكاديمي، وإداري، أصبح أول رئيس للجنة الرقابة على المصارف في عهد الرئيس شارل حلو، مع حاكم مصرف لبنان فيليب تقلا، لسنة واحدة قبل أن يُعيّن الرئيس الياس سركيس حاكماً للمصرف، ويترافقا سوياً طوال ست سنوات، ويتصادقا كما يقول مهنياً لسنوات طويلة.

هو أول رئيس للحكومة الأولى في عهد سركيس بعد سنة واحدة على إندلاع الحرب اللبنانية عام 1976، وترافقا لأربع سنوات في حكومتين متتاليتين، وإفترقا على خلاف. كان سركيس يضع خطةَ عمل فريقه، حين إختار بداية الرئيس تقي الدين الصلح لحكومته الأولى. لم يقبل الرئيس حافظ الأسد به. وقع اختيار سركيس على الحص الذي كان مقرَّباً منه، ليكون رئيساً لحكومته الأولى مع مجموعة من الشهابيين القدماء.

يقول كريم بقرداوني إن السوريين لم يوافقوا على الحص، وقال وزير الخارجية السوري حينها عبد الحليم خدام «لا يمكن لمدير بنك فاشل أن يصبح رئيس وزراء ناجح».

وفي 1979 قال خدام «ان الحص هو أفضل خيار في الوقت الراهن».

ويصفه بقرادوني بأنه «على قدر كبير من الإستقامة والعمق.

وقد أظهر مهارة سياسية غير متوقَّعة في اقتناص الفرص الصعبة».

الآتي من خارج النادي التقليدي لرؤساء الحكومة، والذي كان الإعتقاد بأنه سيكتفي بدور ثانٍ في بداية عهد سركيس، حصل عند خلافه مع رئيسي الجمهورية سركيس ولاحقاً الجميل على تغطية رؤساء الحكومة والنادي السني التقليدي، وعام 1976 على دعْم منظمة التحرير الفلسطينية. وأحد وجوه الخلاف مع سركيس كانت ثنائية الحُكْم بينهما، والخلاف حول الجيش وملفات كثيرة أخرى لها علاقة بالأحزاب والميليشيات. كانت لكل منهما وجهة نظر مختلفة عن الآخر حيال التعامل مع الضباط الذين انشقّوا عن الجيش في بداية الحرب اللبنانية.

وافترق الرجلان، وكانا أرسيا حكومة «تكنوقراط» بمفهومها العملي والشهابي.

وفي مذكراته يقول (الحص) «بدأنا معاً والأمل يجمعنا وإنتهينا والخيبة تفصل بيننا».

ثلاث محطات أساسية في حياة الحص السياسية: إنطلاقته مع سركيس، والتحول الأساسي الذي خَتَمَ عهد الرئيس أمين الجميل بإنعطافة كبيرة في لبنان لا تزال آثارها إلى اليوم بفعل تسليم الجميل الحكومة الانتقالية إلى العماد ميشال عون، وعلاقته مع الرئيس إميل لحود وخلافه مع الحريري.

بين رئاستيْ حكومة كان الحص وزيراً، لكن السرايا عادت إليه أكثر من مرة، في لحظات احتدام سياسية. مع إغتيال رئيس الحكومة رشيد كرامي في عهد الرئيس أمين الجميل، توجّهت الأنظار إلى الحص، فترأس حكومة الإنقاذ الوطني، التي عُرفت بالمراسيم الجوالة.

كان الحص وزيراً للتربية في حكومة كرامي «حكومة الوحدة الوطنية» عام 1984، ويقول إنه كان ميالاً لرفض الحقيبة حين سمع اسمه على الراديو لكنه عاد وقَبِل حتى لا يخذل كرامي.

وبعد سنة قدّم استقالته منها «لان الحكومة لم تكن على مستوى التحدي» ثم طوى الاستقالة تحت ضغط لقاء دار الفتوى مع المرجعيات السنية. هذه الحكومة التي أتت بعد الإجتياح الإسرائيلي وإنتخاب الرئيس بشير الجميل وإغتياله.

وروى الرئيس الحص تفاصيل تتعلق بمعارضته لإنتخاب الجميل، وقيامه بالإتصالات اللازمة لمنعه، متحدثاً عن «عدم جواز إنتخاب شخصية متطرفة لرئاسة لبنان». وهو لم يُخْفِ معارضته للميليشيات، والأحزاب اليمينة، والكتائب، إبان الحرب. ومن هنا أُخذ عليه إنه كان منحازاً لأحزاب يسارية وانه كان يستظل دار الفتوى والمرجعيات السنية حين تَحتدم الخلافات السياسية.

إتهمه خصومه بأنه كان طائفياً، حين كانت الحاجة تستدعي الإلتفافَ السني حوله، وبأنه لم يفتح خطوط إتصالات وتسويات مع القوى المسيحية حتى بعد إنتهاء الحرب. لكنه يَنفي عنه هذه التهمة. وهو الذي لم يربح الشارع السني يوم خاض المواجهة في إنتخابات عام 2000 بمواجهة لائحة الحريري.

حين إغتيل كرامي، عَيّن الجميل، وفق دستور ما قبل الطائف، الحص رئيساً للحكومة، لكن واقع الحال بقي على ما هو في علاقات الجميل برئيس الحكومة، رغم ان الحكومة ظلت تعمل بالمراسيم الجوالة لكنها أمّنت إستمرارية عمل المؤسسات. إلى ان جاء موعد الإنتخابات الرئاسية التي لم تحصل (1988). ويقول الجميل في مذكراته «كان سليم الحص قد أبلغني عودته عن إستقالة حكومةٍ ليس هو رئيسها الأصيل، بل وكالة بعد إغتيال الرئيس المستقيل رشيد كرامي. إنتحل الصفة رسمياً خلافاً لأحكام الدستور، الأمر الذي لم يكن في وسعي القبول به. لذا، كان عليّ أن أشكّل حكومة جديدة بحسب ما يقتضيه الدستور، وكما درجت التقاليد اللبنانية».

عاش لبنان للمرة الأولى تجربة الحكومتين، كلٌّ منهما تسيّر أوضاع مناطق نفوذها، بين بيروت الشرقية والغربية، لكن إتفاق الطائف كان على الأبواب وكذلك الحروب المدمرة بين حربي الإلغاء والتحرير، وصولاً إلى 13 أكتوبر 1990. بين كل هذه المحطات، انتُخب الرئيس رينيه معوض واغتيل، ثم إنتُخب الرئيس الياس الهراوي رئيساً، في 24 نوفمبر 1989 وأعلن حكومته الأولى برئاسة سليم الحص الذي بقي رئيساً حتى نهاية 1990، ليخلفه الرئيس عمر كرامي.

عام 1992، وفي ظل مقاطعة مسيحية للإنتخابات النيابية، خاضها الحص كما يقول «كمعارضة لطرفي الصراع، فريق المقاطعة وفريق الحكم، طارحاً أمام الناخبين خياراً ثالثاً».

وهو كان اتفق مع الرئيس تمام سلام على خوض الإنتخابات لكن الرئيس صائب سلام أعلن رفضه إجراء هذا الاستحقاق، فلم يكمل نجله تمام المشوار معه. وقد انخرط في المعركة تحت شعار «الإنقاذ والتغيير» وربحها.

فكانت بداية مرحلة الكرسي النيابي عن بيروت التي ساعدتْه في خوض معارك سياسية وإنمائية ومالية على مدى سنوات وأعادته إلى السرايا مع بداية عهد الرئيس إميل لحود (1998).

خاصم الحص الرئيس الحريري علناً، من دون مواربة، في مشاريعه المالية والإعمارية، وفي المجلس النيابي لم يكفّ عن إنتقاد سياسته المالية ومصرف لبنان.

استعان به لحود رئيساً للحكومة في وجه الحريري الخارج من عهد الياس الهراوي.

وحتى في بيان حكومته الوزاري هاجم سياسة الإنفاق قائلاً ان «التحدي الاول هو وقْف النزيف المالي الذي إنطلق من السياسات الماضية والنهج الإعماري المتبع وتَعَثُّر عملية الإصلاح الإداري».

استمرّ في منصبه، إضافة إلى حقيبة وزارة الخارجية، إلى موعد الانتخابات النيابية عام 2000، التي سقط فيها.

كان الحريري الخارج من السرايا الحكومية، عمل طوال سنتين على إيقاع شعار إخراجه من الحُكْم على يد لحود. وربح الحريري الإنتخابات وعاد إلى السرايا رئيساً للحكومة مرة جديدة، وأعلن الحص اعتزاله.

ويتحدث الرئيس الراحل في مذكراته عن خلافه الدائم مع لحود وخصوصاً اعتماده على الوزير ميشال المر.

وقد أُخذ عليه (الحص) انحيازه إلى لحود بالمعنى السياسي ضدّ الحريري، وأنه كان قريباً للجو السوري الذي ناهَض الرئيس الشهيد. لكن الحص كان واضحاً في انتقاده للسياسة المالية والإعمارية فحسب.

عروبيّ بإمتياز، مدافع عن العمل المقاوم ضد إسرائيل من دون هوادة، هكذا كان الحص الذي كتب عن الإجتياح الإسرائيلي لبيروت وتدميرها، ودافع عنها من دون كلل وهو الذي عرف الحصار الاسرائيلي والقصف والتدمير، ولم يُخْفِ يوماً عروبته ونصرته للقضية الفلسطينية.

أسس ندوة العمل الوطني التي قامت بنشاطات ثقافية وندوات ومحاضرات تُعنى بالشأن السياسي، وأصدر مجموعة كتب بالعربية والإنكليزية متحدثاً عن تجاربه في الحُكْم وأفكاره.

كتب عن الديمقراطية المفقودة وعن اللاطائفية السياسية محدِّداً ضرورة إلغائها على مراحل، عن الإنتخابات وعن المشاريع المالية وتطوير الأنظمة، وكتب كثيراً عن فلسطين وإسرائيل والعمل المقاوم والقرارات الدولية، عن الإقتصاد ورؤيته لبرنامج إصلاحي إنقاذي مالي للبنان. وله الكثير من المحاضرات في لبنان والعالم العربي التي تتناول إقتراحات وقراءات للوضع في لبنان والشرق الأوسط.

عَرف سليم الحص لبنان في ازدهاره وحروبه الطويلة، وتعرَّض لمحاولة اغتيال نجا منها، وحورب واتُّهم تارةً بالتحالف مع سورية وتارة بأنه ضدها، وبقربه من قوى «8 آذار» و«حزب الله»، وبقي شاهداً على كثير من الإتفاقات والتسويات.. ظل أميناً لفكرة «المعارضة البنّاءة» ودافع عن اتفاق الطائف، لكنه اعتبر أنه «ليس نهاية الطريق إنما الطريق نحو مستقبل أفضل، ونظام الطائف ليس جامداً إنما مفتوح على التطور والتغيير ويجب أن يشكل جسر عبور إلى الجمهورية الثالثة».