للمرة الأولى في التاريخ الحديث، نجح طرف منظّم غير نظامي في إرساء الردع ضد أحد أقوى الجيوش في العالم.
فقد ألحقت قدرات «حزب الله» أضراراً جسيمة بإسرائيل - التي اعترفت بهذه القدرات - ما أدى إلى تحول كبير في التوازن الإستراتيجي.
وباستخدام الصواريخ والطائرات من دون طيار غير المكلفة، استعاد الحزب «اليد العليا» ونفذ انتقاماً محسوباً، رغم حشود قوات غربية للدفاع عن إسرائيل.
وقد زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن قواته شنت بنجاح ضربة استباقية، ومنعت إطلاق أكثر من 1000 إلى 6000 صاروخ موجّه إلى تل أبيب. ولكن لم يتم رصد أي انفجارات ثانوية، ولم تكن هناك أي خسائر مؤكّدة للحزب بين وحدات إطلاق الصواريخ أو حراس المستودعات الذين ورد أنهم استهدفوا.
إرساء الردع
ومما لا شك فيه أن تصرفات «حزب الله» شكلت تحولاً كبيراً في ديناميات القوة في المنطقة. فمن خلال إطلاق 340 صاروخاً ومسيرة عبر الحدود واستهداف مناطق على بعد أكثر من 100 كيلومتر في الداخل، بما في ذلك شمال تل أبيب، أظهر قدراته العسكرية.
ويعكس قصف مواقع إستراتيجية في عمق إسرائيل قدرات الحزب الاستخبارية الدقيقة وقدرته على تجاوز أنظمة اعتراض الصواريخ المتطورة.
كما أن مدى الضربة على عمق أكثر من 100 كيلومتر يوازي انتهاك إسرائيل لقواعد الاشتباك بقصفها ضاحية بيروت الجنوبية واغتيالها أحد قادة مجلس الجهاد فؤاد شكر.
ورغم التهديدات، فإن الضربات الانتقامية التي شنّها الحزب أكدت استعداده للتحرك، ما أدى إلى تأسيس مرحلة جديدة من الردع.
تشكيك
وقوبل ادعاء نتنياهو بأن ضربة استباقية مواقع إطلاق الصواريخ للحزب ومنعت هجوماً على تل أبيب، بالتشكيك... ويتحدى رد الحزب الفوري، هذه الرواية.
ويشير نطاق ودقة هجمات الحزب اللاحقة إلى أن الضربة الإسرائيلية لم تحقق مستوى النجاح الذي ادعى نتنياهو تحقيقه.
ويُظْهِر الردّ الذي تم إعداده منذ فترة طويلة أن البنية التحتية العسكرية والقدرة العملياتية للحزب لا تزال سليمة إلى حد كبير، وهو ما يتناقض بشكل مباشر مع تأكيدات إسرائيل بقدرتها على توجيه ضربة قاصمة.
ضبط النفس التكتيكي
أكدت إسرائيل منذ فترة طويلة أن «حزب الله» يملك ترسانة صاروخية واسعة النطاق.
وتشير التقديرات إلى أنها تصل إلى 250 ألف صاروخ، بما في ذلك الذخائر الموجهة بدقة قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
ونظراً للحجم الهائل لهذه الترسانة، فإن تدمير ألف أو حتى ستة آلاف صاروخ لن يضعف القدرة على شن الحرب أو الرد.
ولن تكون الضربات الاستباقية واسعة النطاق التي تشنّها تل أبيب كافية لزعزعة القدرات الهجومية للحزب بشكل شامل، هذا إذا كانت الرواية الاسرائيلية دقيقة.
في هذا التبادل الناري، امتنع الحزب عن استخدام صواريخه الدقيقة متوسطة وطويلة المدى، واحتفظ بها لمواجهات مستقبلية.
ويؤكد هذا الضبط الإستراتيجي على إدارة الحزب الدقيقة لترسانته، واختار بدلاً من ذلك استخدام صواريخ ومسيرات أقدم وأقل تطوراً.
وحتى مع مئات صواريخ «الكاتيوشا»، تمكن «حزب الله» من اختراق الدفاعات الإسرائيلية بفعالية، ما يوضح بشكل أكبر قدرته على شن ضربات انتقامية كبيرة من دون استنفاد أصوله الصاروخية الأكثر تقدماً.
تبرير إسرائيل الضعيف
تستند مزاعم إسرائيل في شأن الضربة الاستباقية إلى افتراض أن تحييد مواقع إطلاق الصواريخ من شأنه أن يقلل بشكل كبير من تهديدها.
ومع ذلك، فإن انتقام الحزب السريع والقوي يقوّض هذا التبرير. وقد طوّر «حزب الله» شبكة واسعة من مستودعات الصواريخ المخفية والمخابئ تحت الأرض والقاذفات المتنقّلة، ما يجعل من الصعب للغاية على إسرائيل أو حلفائها الغربيين اكتشافها وتدميرها استباقياً.
وفي رده الانتقامي، استخدم الحزب أيضاً المسيرات بفعالية، وهو ما أثبت أنه قادر على تنفيذ هذه العمليات من دون أن يتم اكتشافه.
الحسابات الإستراتيجية
إن ضبط النفس الذي يتسم به «حزب الله» في حجب صواريخه الأكثر تقدماً، يخدم آلية ردع قوية.
ويشير هذا القرار الإستراتيجي إلى أن الحزب يحتفظ بالقدرة على الاستجابة بشكل أكثر تدميراً إذا تصاعد الصراع. وتدرك قيادة الحزب أهمية الحفاظ على موقف ردع موثوق، ما يَضمن أن تظل إسرائيل حذرة في شأن إثارة حرب شاملة يمكن أن تلحق أضراراً جسيمة ببنيتها التحتية وأصولها العسكرية.
وقد كشف رد الحزب أيضاً عن قرار «محور المقاومة» الذي لا يحتاج بالضرورة إلى تنسيق الضربات لتحدّي إسرائيل بفعالية على جبهات متعددة وفي الوقت نفسه. وقد أدى هذا العمل المستقلّ من جانب «حزب الله» إلى تحويل التركيز مرة أخرى إلى الصراع الدائر في غزة وفلسطين، وتحويل الانتباه عن التوترات الإقليمية الأوسع التي تراكمت في الأشهر الأخيرة.
لم يغيّر رد الحزب الحسابات الإستراتيجية الإسرائيلية فحسب، بل ساعد أيضاً في تبديد التوتر الإقليمي الذي كان يتراكم على مدى الأشهر الأخيرة.
فقد أدى تصعيد نتنياهو ضد عواصم متعددة في الشرق الأوسط إلى جلب آلاف إضافية من القوات الغربية إلى المنطقة، الأمر الذي أثار شبح صراع أوسع نطاقاً كانت الولايات المتحدة حريصة على تجنبه.
ومن خلال تنفيذ ضربة الانتقام المخطط لها، أعاد «حزب الله» الأضواء إلى غزة، ما قوض رواية نتنياهو بأنه وحده القادر على حماية إسرائيل من أعدائها العديدين.
ويشير تردد إسرائيل في التصعيد إلى أن انتقام الحزب أعاد قواعد الاشتباك التي انتهكتها تل أبيب بقصفها لضاحية بيروت. وهذا يؤكد التأثير العميق لأفعال الحزب على المشهد الجيوسياسي في المنطقة.
ومع استمرار «حزب الله» في اكتساب الخبرة واختبار دفاعات إسرائيل، فإن ميزان القوى في المنطقة يتحوّل. ولاتزال إسرائيل قوة عسكرية هائلة، لكن قدرات الحزب المتنامية تشير إلى أن أي صراع مستقبلي سيكون أكثر تدميراً لإسرائيل من الاشتباكات السابقة منذ عام 1967. وفي الوقت الحالي، استعاد الحزب اليد العليا ما يثبت أن الجهة الفاعلة غير الحكومية قادرة على تحدّي أحد أقوى الجيوش في العالم والخروج بنفوذ إستراتيجي.