رأي قلمي

... وكأنه لم يكن!

3 أغسطس 2024 10:00 م

فقد صحّ أن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أمضى خلف رجل كافر في إحدى المعارك، فلما تمكّن منه قال الرجل: لا إله إلا الله، فطعنه أسامة بالرمح حتى قتله، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! قال أسامة: إنما قالها متعوذاً - أي خوفاً من القتل - قال النبي: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟! أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟! قال أسامة: فما زال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يكرّرها حتى تمنيتُ أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.(الخبر في الصحيحين).

هكذا كان نبينا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يسد باب اتهام النوايا وإيجاب معاملة الناس على ما يظهر من أعمالهم، وتفويض سرائرهم إلى الله تعالى.

إنّ النوايا والمقاصد التي لا يعلمها إلا الله تعالى، تثير لدينا الكثير من الجدل واللغط مثلاً: أحدهم زارني بقصد الشماتة بي لما عرف من سوء حالي، وليس بقصد الصلة والتواصل الأخوي، وفلان يواظب على صلاة الجماعة في المسجد ليس بقصد كسب ثواب الجماعة، ولكن لأنه يريد مصلحة من إمام المسجد، وهكذا... وهناك من يصدق، وهناك من يرفض ذلك، وهناك من يتخذ مواقف بناءً على هذه الظنون!

هناك أمور كثيرة في حياتنا لا سبيل إلى التوافق، أو الترجيح فيها، وهذا يعني تجنب الدخول والإيغال في نقاشها. وهناك جدل عريض يدور حول الكثير من القضايا بغية الصيرورة إلى رأي نهائي أو قول حاسم، والنتيجة هي استهلاك الأوقات وتعكير القلوب، ثم لا شيء!

كذلك الذوقيات والاختيارات الشخصية، هي الأخرى غير قابلة للحسم، فبعض الناس يفضل لبس ملابس ذات ألوان لأسباب معينة، وبعضهم يشتهي أكل بعض الأطعمة دون بعض، وبعضهم يكره رائحة بعض العطور، وهناك آخر من لا يعجبه ذلك. نعم هي أذواق، وعلينا أن نقول من البداية «هذه أذواق» حتى لا نختلف في أمور يصعب قول الكلمة الفصل فيها.

جزئيات وفرعيات كثيرة في مسائل تتصل بالفلسفة والتاريخ والعلاقات الدولية والأحزاب والجماعات، هذه الجزئيات والوقائع الصغيرة والفرعية يحدث فيها الكثير من النزاع، ويكون التوافق عليها أشبه بالمستحيل، لكن بعض الناس يصرُّ على توحيد الآراء والمواقف حولها ظناً منه أنه يحتوي النزاع ويوحّد الصفوف، أو يحسّن مستوى التوافق، لكن طبيعة الجزئيات والفرعيات تأبى عليه ذلك لأنها في الأساس مناط تباين الآراء ووجهات النظر، ولذا فالأولى هو صرف النظر عن كل ما لا يحسم أمره، وكأنه لم يكن.

M.alwohaib@gmail.com

mona_alwohaib@