يحسب لترامب أنه جعل الملايين حول العالم يفكرون ويتساءلون ويقرأون حول كيفية صنع السياسة الخارجية الأميركية، ودور الرئيس فيها. وذلك بفضل نهجه غير المعهود في السياسة الخارجية الأميركية، والذي يصفه البعض بالنهج الانعزالي، بينما يوصمه آخرون بالمتطرف، وآخرون أيضاً بنهج الصفقات.
يلعب الرئيس دوراً كبيراً في السياسة الخارجية الأميركية. ففي حالات الطوارئ والأزمات الكبرى، كالهجوم العسكري على الولايات المتحدة، أو حدوث كوارث طبيعية تصبح سلطاته ديكتاتورية. كما يقوم بالإشراف على تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية الأميركية بصفة عامة.
لكن على الرغم من ذلك، تبقى سلطاته محدودة في بعض الملفات الرئيسية، لاسيما ملف النفقات الخارجية، ومبيعات السلاح الأميركي، حيث تخضع هذه الملفات لسلطة الكونغرس الأميركي.
وثمة إشكالية أخرى تتعلق بطبيعة ودور الولايات المتحدة ذاته ومصالح الدولية المتنوعة؛ وهنا الرئيس الأميركي بفضل ضغط وإقناع بعض المؤسسات الأميركية وعلى رأسها البنتاغون، يخضع لرؤية هذه المؤسسات التي لديها دراية كافية بمصالح الولايات المتحدة والمخاطر الخطيرة التي تواجهها. إذ على سبيل المثال، لا الحصر، خضع ترامب لموقف البنتاغون بشأن ضرورة الإبقاء على قوات أميركية محدودة في شمال سورية، على الرغم من عدم قناعة ترامب الجازمة بجدوى الوجود الأميركي في سورية بصفة عامة.
خلاصة الأمر، صناعة السياسة الخارجية الأميركية عملية معقدة بعض الشيء، فالقرار الخارجي الأميركي يعد كمزيج من سلطات وتفضيلات الرئيس، وضغوط مؤسسية، ومراعاة توازنات داخلية وجماعات ضغط. لكن في وسط كل ذلك، هناك مصالح إستراتيجية كبرى مصنوعة أو محددة سابقاً ومتفق عليها ولا يستطيع الرئيس الأميركي تحديها.
وأبرز ثلاثة أمثلة على ذلك: مقاومة التحدي الصيني، وتقليص التركيز في الشرق الأوسط، الدعم المطلق لإسرائيل. وقد اتضح ذلك من الإدارات الأميركية المتعاقبة بما في ذلك إدارة ترامب، التي ربما قد اختلفت في التكتيكات والسياسات لكنها لم تحد عن جوهر الأهداف. فترامب مثلاً، انتهج سياسة انفرادية لمواجهة الصين عبر الحرب التجارية والتكنولوجية. في حين فضل بايدن تشكيل التحالفات الأمنية في منطقة الباسفيك، مع الاستمرار في الحرب التجارية والتكنولوجية.
في خطابه الأخير الذي ألقاه في وسكنسون بعد محاولة الاغتيال الفاشلة، حدد ترامب معالم سياسته الخارجية. ومجمل خطابه لم يأتِ بأي جديد، حيث توعد بالقضاء على مشكلة الهجرة غير الشرعية، والاستمرار في سياسات عنيفة ضد الصين.
فضلاً عن ذلك، قد أعاد التأكيد على إنهاء الحرب في أوكرانيا وغزة. ومدى صدق وقدرة ترامب على الإيفاء بذلك، سيشكل إعادة اختبار لطبيعة صنع السياسة الخارجية الأميركية وحجم دور الرئيس فيها، ومدى الالتزام بالثوابت والتوجهات الإستراتيجية الكبرى. وربما مستقبل القيادة الأميركية في العالم.
بادئ ذي بدء، يجب الوضع في الاعتبار أن صعود الحالة الترامبية لن يأتي من فراغ، فهي انعكاس لتصاعد مزاج شعبي شديد الاستياء من وضعه الاقتصادي المتردي الناجم جزئياً من الإنفاق الأميركي الباهظ على دعم الحلفاء واستمرار التفوق العسكري الأميركي. لذا، يلقى خطاب ترامب المنتقد بشدة للدعم الأميركي لأوكرانيا استحساناً داخلياً متصاعداً، إذ وصف الولايات المتحدة كرهينة لدى أوكرانيا وحلف الناتو. وفي شأن غزة، قد توعد بإنهاء الحرب، وحمّل بايدن المسؤولية عن استمرار هذه الحرب.
ونقدر أن ترامب سيسعى بكل تأكيد إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا وغزة -رغم عدم تحديده بدقة لخطة شاملة لعمل ذلك- لكنه بالتأكيد أيضاً سيواجه التحديات والضغوط الشديدة لإنجاز ذلك -حال فوزه بالرئاسة- فإنهاء الحرب في أوكرانيا، أو قطع الدعم الأميركي لأوكرانيا، هو إقرار أميركي بانتصار روسيا وتراجع دورها القيادي العالمي. وهذا لن يكون مقبولاً لدى المؤسسات الداخلية التي تصنع التوجه العام الأميركي.
وفي شأن غزة، ربما سيقلص ترامب الدعم الأميركي لإسرائيل، لكنه ليس بمقدوره منع إسرائيل في الاستمرار في حربها ضد حركات المقاومة.
خلاصة الأمر، يعكس ترامب سياسة خارجية أميركية تحمل مزيجاً من الانعزالية ومنطق الصفقة التجارية، تعكس أيضاً تنامي توجه شعبي أميركي بدأ ينفر حتى من الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل. ومع ذلك، سيبقى مقيداً في سياسته الخارجية للتوجهات الإستراتيجية الرئيسية، ومزيج الضغط المؤسسي والتوازنات الداخلية.