بعد أكثر من مئة يوم غيابٍ عن الصحافة المحلية، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخطابٍ أصبح من السهل التنبؤ بمضمونه. فهو ينادي بتحقيق «النصر المطلق» واستمرار الحرب، ولكنه هاجم أميركا على طريقته الخاصة، وناقَضَ نفسه، ووجّه هجوماً من نوع جديد، مشيراً الى احتمال حربٍ مماثلة لحرب غزة... على لبنان.
يقود نتنياهو المفاوضات الجارية في القاهرة والدوحة منفرداً ولا يعطي أي صلاحية لاتخاذ القرار لرئيسيْ الموساد والشاباك، بل عليهما العودة إليه في أي قرار نهائي يتعلّق بالمفاوضات مع «حماس».
ويرى مدير الموساد ديفيد برنياع، رئيس الوفد المفاوض، أن إسرائيل لديها الحق بالعودة إلى القتال في غزة فقط إذا لم تلتزم «حماس» بالاتفاق. وهي صيغة واقعية ويمكن تحقيقها على عكس ما يشترطه نتنياهو بالعودة الى غزة مع جيشه حين يرى ذلك مناسبا.
وجلّ ما يطلبه نتنياهو في الوقت الحالي هو كسْب المزيد من الوقت وأن يحقق له الجيش نصراً تكتيكياً مثل اغتيال رئيس «حماس» في غزة يحيا السنوار أو محمد الضيف القائد العسكري لجناح القسام.
ويريد رئيس الوزراء الاسرائيلي الاستمرار بالقتال حتى «قتْل كل فرد من حماس، من أصغرهم الى أكبرهم لأن مصيرهم الموت» كهدفٍ أساسي في معركته على غزة، كما صرح بنفسه. وهذا يعني أن المفاوضات لا تعنيه لأنها تتضمّن وقفاً للإطلاق نارٍ دائم أو مستدام وليس استمرار الحرب إلى ما لا نهاية كما يريد نتنياهو. وتالياً فإن المفاوضات لا معنى لها لأن الأخير لن يلتزم بأي بندٍ يتضمّن إنهاء الحرب.
ولهذا فإنه نتنياهو يطرح كل مرة شروطاً غير قابلة للتحقيق ويوجِد واقعاً جديداً على الأرض لنسف المباحثات مع حماس أملاً في أن تقلب المقاومة الطاولة على مَن فيها. وهذا ما لا تفعله المقاومة الفلسطينية التي تدرك جيداً أهداف نتنياهو وخطّته المدمّرة للمفاوضات ليبقى في رئاسة الحكومة.
ولذلك فإن إسرائيل تعود دائماً إلى نفس المقولات التي استخدمتْها منذ السابع من أكتوبر في ما يتعلق «بالانتصار المطلق» كهدف أساسي لوقف الحرب، ما يعني تمني أن ترفع حماس الراية البيضاء وتخرج من غزة، وهذا ما لن يحصل أبداً، كما أكد السنوار الذي يفضّل، وفق ما قاله، ان «تكون كربلاء» كبديلٍ اذا وصلت المفاوضات الى طريق مسدود.
ويجب عدم إغفال تفاصيل ما قاله نتنياهو في مؤتمره الصحافي الأخير حين ظَهَرَ ليعلن: «لستُ متأكداً من مقتل محمد الضيف (في عملية المنطقة الآمنة في المواصي-خان يونس التي قتلت وجرحت 400 فلسطيني مدني من المهجّرين داخل خيمهم)، وأهمّ ما أردتُ معرفته من قادة الأجهزة الأمنية قبل الموافقة على العملية هو انه لا يوجد مخطوفون (إسرائيليون) قرب الهدف، وما أنواع الذخيرة وما الأضرار الجانبية».
وعندما يتعلّق الأمر بنتنياهو، لا مكان للصدفة: ففي معرض قوله إنه أراد معرفة إذا كان هناك مخطوفون إسرائيليون، أكد أنه لا يملك المعلومات المؤكدة عن مصير محمد الضيف لافتقاره للمعلومات الاستخباراتية الدقيقة عن موقع وجوده، ما يعني أنه لا يملك المعلومات عن حقيقة وجود مخطوفين إسرائيليين أو عدمه في الموقع المفترَض، وهذا يؤكد تالياً أن هدفه الفعلي ليس المخطوفين الذين جازف بهم أيضاً.
وبتساؤله عن نوع الذخيرة، هو فعل ذلك فقط كي يُلْقي العالمُ اللومَ على الإدارة الأميركية باعتبار أنها قتلتْ قنابلها المدنيين الفلسطينيين وليس على الإسرائيلي الذي استخدم هذه القنابل ضمن محيطٍ يكتظ بالمدنيين، ما يشير إلى ان نتنياهو يتدخل بالانتخابات الرئاسية الأميركية ويريد للناخبين أن ينقموا على الرئيس الديموقراطي جو بايدن لتزويده إسرائيل بالقنابل اللازمة لقتْل الفلسطينيين.
وليزيد الطين بلةً على بايدن، قال نتنياهو في ردّ على سؤال صحافي انه«لا يبلغ الإدارة الاميركية بعملياتٍ من هذا النوع - خوفاً من تسريب المعلومات – إلا في الوقت المناسب». وهذه إهانة واتهام صارخ لإدارة بايدن. وهذه الاتهامات تتناغم مع ما قاله الرئيس السابق والمرشح للرئاسة دونالد ترامب حين اتّهم بايدن بأنه«فلسطيني سيئ»لأنه«يساعد الفلسطينيين ولا يسمح لنتنياهو بإنهاء المَهمة»(قتْل من يريد في غزة).
وأكد نتنياهو أنه سأل عن الأضرار الجانبية ولم يكترث لقتل عشرات الفلسطينين وجرح المئات لأن الشعب الفلسطيني لا يُعتبر جزءاً من الإنسانية بالنسبة للإسرائيليين.
ولا يخشى رئيس الوزراء من مناقضة نفسه. فهو قال في السابق إن "حماس" لديها 60000 مقاتل داخل غزة ولكنه صرّح أخيراً بأنه «قضى على المئات».
فماذا سيحصل لعشرات الآلاف الباقين في القطاع؟ وهل الأرقام التي يوزّعها تدلّ على ضرورة إكماله المعركة للوصول إلى هدف القضاء على كامل كتائب حماس على الرغم من اعتراف جيشه بأن الحركة فكرةٌ لا يمكن القضاء عليها؟
وفي قوله إن إكمال المعركة ضروري لتحقيق«النصر الساحق لاستعادة الردع» لأن «المساسَ بنا لن يكون مقبولاً» و«نرى ضعفاً وتشققات في صفوف حماس»، فإن هذا يدل على أن أي مقترح لن يكون مقبولاً لأن نتنياهو يريد فرض شروطه على المقاومة و«لن يقبل أي تعديل» كما قال. وهذا يعني أنه غير معنيّ بتفاصيل أي اتفاق مستقبلي.
وفي حين يؤكد أنه «لن يحيد قيد أنملة» عن مقترح بايدن (الذي قدمته إسرائيل)، إلا أنه يتمسك بشروط «الاستمرار بالحرب لتحقيق الأهداف (انهاء حماس وتحرير الأسرى) ومنْع تهريب السلاح (البقاء في معبر فيلادلفيا ورفح) ومنْع عودة المسلحين إلى شمال غزة (الموافقة أو رفض أي عودة للنازخين إلا بموافقة إسرائيل) وعودة جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء بالمرحلة الأولى».
وهذا ما يتناقض مع مسودة الاتفاق التي قدّمها بايدن، لأن نتنياهو أكد بنفسه أنه يريد استعادة الأحياء والاستمرار بالحرب بعد ذلك، ما ينسف أي اتفاق، خصوصاً أنه لن يهتمّ بجثث الأسرى بعد ذلك لأنه غير مستعجل على دفْع أي ثمن مقابل استعادة الجثامين.
ويقول رئيس الوزراء إن «إنهاء حماس يقرّبنا أكثر من تحقيق أهدافنا» ولا يقول إن ذلك ينهي الحرب، كإشارةٍ إلى مساحة وافرة للمراوغة. وأنهى نتنياهو كلامه بالإشارة إلى الجبهة الشمالية مع لبنان ملمّحاً إلى أنه يحضر لعملية عسكرية كبرى.
إلا أن ذلك من الممكن أن يكون جزءاً من مناورته وتهويله ليضغط من أجل مفاوضاتٍ سياسية غير مباشرة يعلم جيداً أنها لن تثمر عن أي نتيجة ما لم يوقف الحرب على غزة، من دون إلغاء فرضية الحرب الشاملة بالكامل.
وتالياً، فإن تصميم نتنياهو على إكمال حربه (للبقاء في منصبه) طغى على خطابه، وهذا يدلّ على أن العمليات العسكرية مستمرة إلى ما لا نهاية حتى يتأكد أن موقعه غير مهدَّد، وعلى أنه ماضٍ إلى حين تحقيق نصرٍ يقلب الرأي العام الإسرائيلي إيجاباً لمصلحته. وحتى ذلك الحين، فهو باقٍ على موقفٍ لا يتغيّر إلى أَجَلٍ غير مسمى.