فشلتْ إسرائيل في تحقيق انتصارٍ إستراتيجي في حربٍ قصيرة الأمد كما تعوّدت منذ عام 1967. ولهذا برزتْ تداعياتٌ مجتمعية جدّية تمثّلت في فقدان الثقة بقدراتِ «الجيش التدميري» الذي أثبت قدرةً على التدمير بعيداً عن الانتصار الإستراتيجي.
وهذه القدرات تشفي غليلَ الصهاينة في انتقامهم من الفلسطينيين ولكنها بعيدة عن ردّ الثقة واليقين إلى مجتمعٍ خائف من العودة إلى غلاف غزة وإلى المستوطنات على الحدود مع لبنان، وذلك بعد استخلاصٍ واضح لنتائج أطول حرب تخوضها إسرائيل مع حلفاء أقوياء يدعمونها على الأرض وفي الجو واستخباراتياً ويمدّونها بالذخائر والغطاء الدولي الذي تحتاج إليه. ولكن خسائر تل ابيب الاقتصادية بلغت 56 مليار دولار خلال 6 أشهر فقط من دون أن يتوقف النزيف الاقتصادي ما دامت الحرب مستمرة. وفي غياب الأمن والاقتصاد ينهار الهيكل على مَن فيه.
وقد انتهجتْ إسرائيل مبدأَ الانسحاب من غزة مع الاحتفاظ بالنشاط العسكري بعد فشل المفاوضات بين الطرفين بسبب مناورات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الرافض لوقف الحرب تماماً ولعودة جميع المهجرين إلى شمال غزة. إلا ان خفْض العمليات العسكرية على الجبهة الجنوبية لا يعني تسريح 300 ألف من قوات الاحتياط الذين يمثلون عَصَب الاقتصاد والإنتاج المعطّل بسبب استمرار الحرب والتعبئة على الحدود اللبنانية مع «حزب الله» وغياب الاستراتيجية المستقبلية الواضحة.
وأعلنت إسرائيل ان 18 في المئة من الصادرات تراجعت ما تسبّب بخفض حركة التجارة، وخصوصاً ان جبهة اليمن لن تفتح خط البحر الأحمر للسفن والبضائع الاسرائيلية ما دام وقف إطلاق النار الشامل لم يُعلن ولم يُفك الحصار عن غزة.
وتراجع الاستثمار في الأصول الثابتة بنسبة 67 في المئة وهو الذي يشكل عصب عملية الاقتصاد على المدى الطويل. وتراجع عدد الشركات الناشئة بنسبة 75 في المئة بسبب حال انعدام الثقة بالمستقبل، وخصوصاً أن نتائج الحرب الإستراتيجية التي أعلنها مسؤولو إسرائيل في حكومة الحرب لم تقنع المجتمع المُنْتِج والمبتكر بأن الخطر من غزة ومن لبنان أزيل، أو على الأقل، تمت السيطرة عليه. وهذا ما دفع إلى هجرة الشباب من اسرائيل.
وقد ارتفعت خسائر قطاع البناء إلى أكثر من 2.7 مليار دولار شهرياً بفعل التدابير التي اتخذها وزير الأمن المتطرف ايتمار بن غفير بمنع العاملين الفلسطينيين من الضفة الغربية من العمل في المدن الإسرائيلية. وهذا مردّه إلى قرارٍ بمعاقبة جميع الفلسطينيين وجلب عمالة من الخارج (الهند والصين ودول آسيوية أخرى) لتحلّ مكان العمالة الفلسطينية. وتسبب ذلك بأزمة إقتصادية في الضفة الغربية بين عوائل الفلسطينيين، وخصوصاً أن هناك 180.000 عامل كانوا يجتازون الضفة للعمل في قطاعيْ البناء والزراعة في شكل عام. إلا ان إسرائيل إستطاعت جلب فقط 40.000 من العمال الأجانب ولم تتمكن من تعويض النقص بسبب التدابير الإسرائيلية القاسية في منْح تصاريح الإقامة التي تُعطى للأجانب والعمال القادمين من الخارج لعدم انتمائهم للطائفة اليهودية. وعلى الرغم من ارتفاع عدد المؤسسات المعنية بجلب الأجانب من الخارج للعمل في إسرائيل ثلاثة أضعاف، إلا ان عراقيل بيروقراطية تقف حجر عثرة أمام ملء فراغ العمالة الفلسطينية.
ولتعويض العجز المباشر في الموازنة الإسرائيلية، رفعتْ الحكومة الضريبة المضافة إلى 18 في المئة لتغطية النفقات خصوصاً على الوزارات الجديدة المستحدَثة والتي أوجدها نتنياهو لإرضاء وزراء من أحزاب متطرفة يشكلون العمود الفقري لبقائه في الحُكْم في ائتلاف واحد. وقد تسببت هذه الحرب وتدابير الحكومة الطارئة بارتفاع الدين العام لـ65 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتعيش إسرائيل مشكلة اقتصادية غير مسبوقة لم تشهدها منذ حرب أكتوبر عام 1973 والتي دامت 19 يوماً فقط واحتاجت إسرائيل لـ 10 سنوات بعدها للخروج من عجزها جراء خسائر أبسط بكثير مما تتعرّض له اليوم.
هذا عدا عن الأضرار النفسية لأكثر من عشرة آلآف جندي وضابط ستؤثر في الاقتصاد مستقبلاً، وأثمان القذائف والذخائر التي استعملها جيش الاحتلال الإسرائيلي بغزارة لم تتوقّعها قيادته. فقد إستخدمت إسرائيل 100.000 قذيفة مدفعية و 30.000 صاروخ جوي اعتراضي و 40.000 قذيفة من سلاح الطيران، عدا عن الذخائر الفردية وتضرُّر سلاح الهندسة من دبابات وناقلات جند.
وقُدر استهلاك الجيش الإسرائيلي في نصف سنة من القتال والقصف العشوائي بأربعة أضعاف ما توقعته قيادة الأركان في خططها عشية الحرب، هذا من دون احتساب الجبهة اللبنانية مع «حزب الله» والأثمان التي يتطلّبها معاودة ملء المستودعات الفارغة نسبياً بالذخيرة.
فالجبهة الشمالية مع لبنان تجاوزتْ تأثيراتُها جميع التقديرات الإقتصادية والنفسية للمستوطنين الذين هُجرّوا من مستوطناتهم والذين يُقدرون بنحو 100.000، وذلك لجهة تغيّر التركيبة السكانية والبنية الاجتماعية، خصوصاً لِما يمثله الشمال من خزان حيوي للمياه والينابيع والأنهار والأراضي الخصبة التي تنتج 80 في المئة من الدواجن و 40 في المئة من الحمضيات و95 في المئة من التفاح وإنتاج النحل الذي يبلغ وحده 1.1 مليار سنوياً.
هذا عدا عن 30 مصنعاً للنبيذ الفاخر والمواقع السياحية التي يصل تعدادها إلى 768 موقعاً للسياحة الطبيعية والزراعية والمحميات والينابيع الساخنة ومراكز التزلج والتي تستقطب 1.5 مليون زائر سنوياً. وجميعها معطلة كلياً عن العمل والحركة والإنتاج. وتُعد خسائر القطاعات الزراعية تراكُميةً لغياب عملية تأهيل الأرض والمحافظة على البساتين ما يشكل ضرراً يمتدّ لسنوات طويلة، ناهيك عن الدمار الذي لحق بالمستوطنات جراء القصف والصواريخ التي أطلقها «حزب الله».
وتقدّم المستوطنون بأكثر من 7000 طلب لإصلاح الأضرار في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، وأضيف 3000 طلب آخَر لإصلاح أضرار جسيمة لمنازل دُمرت كلياً أو غير قابلة للترميم، عدا عن الأضرار الكبيرة الناتجة عن إصابة المرافق التعليمية والترفيهية وكذلك البنية التحتية من خطوط الكهرباء الحيوية وطرق وأنابيب المياه والصرف الصحي.
وما يحصل في إسرائيل هو تهديد مباشر لقاعدة الروح الصهيونية الأساسية المتمثّلة بالارتباط بالأرض والحزام الأمني الذي تشكله المستوطنات كخط دفاع أول لباقي المدن. ولذلك فإن إخلاء 43 مستوطنة بأمرٍ رسمي وعدم العودة إليها قبل شهر أغسطس كتاريخ أوّلي على طول الجبهة الشمالية، يشكل خطوةً لاندماج هؤلاء في مجتمعات بعيدة أو الرحيل نهائياً عن إسرائيل. وقد يشكل ذلك خسائر تقدّرها إسرائيل بنحو 63 مليار دولار على الأقل إذا استمرت الحرب بضعة أشهر أخرى.
لا يوجد منبع سلاح في العالم مثل أميركا يستطيع تزويد إسرائيل بالذخيرة التي تحتاج إليها. وتستطيع واشنطن تقديم بضعة مليارات أيضاً لدعم الاقتصاد الإسرائيلي، ولكنها، بالإضافة إلى الأثرياء الصهاينة، لن يستطيعوا تغطية ربع الخسائر الاقتصادية. ومع ذلك، يَبقى نتنياهو يراوغ ويتحايل في مفاوضاته أملاً في أن تقع «حماس» في فخ «السلام المستدام» وليس «السلام الدائم». ولا يهمّ رئيس الوزراء الثمن الذي يدفعه اقتصادياً ما دام باقياً في الحُكم.
وهذا ما يجعله رجلاً خطراً على إسرائيل بالدرجة الأولى وعلى الفلسطينيين واللبنانيين في الدرجة الثانية.
إلا أن هذه الأرقام دليل كافٍ على ان إسرائيل شارفت على نهاية حربها المفتوحة، بهدف وقف النزيف الاقتصادي وخصوصاً انها عجزت عن تحقيق أهداف إستراتيجية على الجبهتين. وهذا من شأنه منْع إسرائيل من القيام بأي حرب في السنوات العشر المقبلة، بحسب المنطق الاقتصادي والعسكري.