من الضروري الإضاءة على حقيقة ما يجري في غزة بتجرّد ومن دون انحياز في إظهار قوة جيش الاحتلال وما تفعله المقاومة في غزة.
لعقودٍ طويلة ذاع صيت الجيش الإسرائيلي على أنه «الأقوى في الشرق الأوسط»، خصوصاً بعد حرب عام 1973.
إلا أن ما يحصل منذ نحو خمسة أشهر في قطاع غزة، يَصنع التاريخ ويعيد كتابته لِما يبْديه هذا الجيش من وحشية مفرطة، وكيف يتعثّر أمام أداء المقاومة في غزة رغم الدمار الهائل والقتْل الجَماعي الذي أحدثتْه آلة الحرب الإسرائيلية في المجتمع الفلسطيني.
فلماذا يحتاج هذا الجيش «القوي» لإظهار وحشية مفرطة رغم تفوقه عُدّةً وعدداً؟ وهل هي فقط مسألة تلقين درس لمَن يفكّر في مهاجمة إسرائيل مستقبلاً؟
استطاع جيشُ الاحتلال قتْل أكثر من 31 ألف مدني وجرح نحو 70 ألفاً مع إحصاء 7000 مفقود غالبيتهم تحت الركام أو دُفنوا من دون معرفة هوياتهم. وتَرتكب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً، وهي تُحاكَم أمام محكمة العدل الدولية على مبدأ ارتكابها إبادة جماعية تمضي فيها مستفيدةً من أسلحة وذخائر وأموال ودعْم سياسي وتغطية في مجلس الأمن من الولايات المتحدة وحلفائها.
ولم يَعُد خافياً أن إسرائيل تهاجم وتقتل بوحشية مفرطة غير مسبوقة وأن جيشها يمثّل بالجثث بنبْش القبور وسحْقها بالدبابات ويحاول ارتكاب أكبر عدد من المجازر اليومية. وقد ارتكب أكثر من 2750 مجزرة من دون أن يتوقف حتى بعد مرور أشهر طويلة على «انتقامه» من عملية «طوفان الأقصى» التي انطلقت في السابع من أكتوبر.
ويقول البروفسور الكندي عالم النفس البرت باندورا، الذي اشتهر في مجال نظرية التعلّم الاجتماعي ومفهومه عن الكفاءة الذاتية والسلوك العدائي، إن «الأفراد يبررون أفعالهم غير الأخلاقية من خلال الانفصال عن المعايير الأخلاقية التي من شأنها أن توجّه سلوكهم. وفي سياق أداء الجيش، يقوم الجنود بتجريد العدو من إنسانيته أو نقْل مسؤولية ما يرتكبونه إلى الأوامر العليا التي يتلقونها من أجل تقليل المساءلة الشخصية».
ويشرح العالم النفسي الأميركي المشهور ايرفينع جاينس، الذي درس نظرية «التفكير الجماعي» في كتابه «Groupthink» أن «مجموعةً متماسكة توجد لنفسها وَهْمَ الحصانة وتفشل في إجراء تقييم ذاتي نقدي للنظر في الآثار الكاملة لأفعالها، ما يؤدي إلى أفعال غير أخلاقية ترتكبها من دون تردد».
ويضيء الكولونيل ديف غروسمان، البروفسور في علم النفس والمشهور في دراسته لسيكولوجية القتل في كتابه «Killology» وكتب أخرى، على الموضوع نفسه خصوصاً عن الآثار والتأثير النفسي للقتل وصدمته بعد ذلك، والسلوك الناتج عن استخدام القوة المميتة المفرطة وكيف يتكيف الجنود ويتغلّبون على نفورهم الطبيعي من ارتكاب وحشية القتل.
وتشير الأبحاث إلى أن «الخوف الشديد مع غريزة البقاء يؤدي إلى سلوك عدواني مفرط كآليةٍ دفاعية في خضم المعركة وإلى ارتكاب أفعال لا يفكرون فيها في الظروف العادية في محاولة لكيّ وعيهم ضد الشعور بالذنب أو الصراع الأخلاقي الناشئ عن أفعالهم».
وهناك دراسات عدة حول أداء «الجيش الخائف الذي يقتل ليحقق كيّ الوعي عند العدو أو لتوجيه رسالة للعالم تم فهْمُها حول الأفراد والمجموعات التي تنتهك المعايير الأخلاقية في البيئات شديدة التوتر مثل الحرب».
وكل هذه الدراسات تصبّ في خانة مفهوم مشترك أن الجيش الإسرائيلي يرتكب فظائعه لأنه «خائف» ويحاول «كي الوعي» ليس فقط لكي لا يفعل به مرة ثانية ما حصل له في السابع من أكتوبر، بل لأنه يخشى الفشل بردع الأعداء الذين أصبحوا أقوياء لدرجة التحدي.
فمنذ نحو 151 يوماً من الحرب، مازالت إسرائيل متعثّرة داخل قطاع غزة حيث لم تخفق فقط في تحقيق أهدافها العسكرية المعلنة (تحرير الأسرى والقضاء على «حماس») بل هي تقود حرباً لا أخلاقية لم يشهد لها العالم مثيل بجيشٍ مؤلف من مرتزقة أتوا من جميع أنحاء العالم وتجمعهم كلمة «يهودي» على الهوية ومجرَّدين من روحية القتال.
بل إن الجيش الإسرائيلي يتراجع عن الكثير من المنجزات العسكرية التي حققها خلال الحرب ليعود ليقصف المناطق نفسها التي كان قد أعلن السيطرة عليها والقضاء على المقاومة فيها.
ويقول الإعلام الإسرائيلي إن هناك أكثر من 30 ألف حالة نفسية مضطربة جراء الحرب وفظائعها بين أفراد الجيش الذي يحارب في غزة، إلى جانب مئات الآلاف الذين غادروا خوفاً من انعدام الأمن وحالة اللا يقين التي انتشرت بين المهاجرين الذين أتوا إلى فلسطين لمزيد من اغتصاب الأرض وبحثاً عن حماية الدولة والجيش.
فحضور اليهود من جميع أنهاء العالم وانضمام مئات الآلاف منهم للجيش المعتدي والذي يسمى بـ «جيش الدفاع» مردّه إلى الإغراءات الحكومية بامتلاك أرض الفلسطينيين من دون مقابل وقتل وتهجير أصحاب الأرض الأصليين، ووعْد الأمان الذي أطلقتْه حكومات إسرائيل منذ إنشائها عام 1948 ويرتكز على حماية جيشٍ سيقدّم لهم الضمانة الأمنية اللازمة بصفته أقوى جيوش الشرق الأوسط والذي يتعامل مع تنظيمات فلسطينية متفرّقة ومتناحرة لا تشكل خطراً وجودياً عليه.
إلا أن حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر، وأخطأتْ رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير حين اعتقدتْ أن «الكبار يموتون والصغار ينسون».
فقد أقسم الأبناء في غزة، على عدم التخلي عن أرض الأجداد مهما قدّموا من تضحيات. وأظهر هؤلاء بطولةً نادرة وهم تنظيمات مدرّبة غير نظامية تملك العقيدةَ والروحيةَ التي لا يتحلى بها جندي يتقاضى راتباً لأداء وظيفته في الجيش واستقطابُه لا يأتي عن عقيدة.
وقد أثبتت المقاومة، رغم إمكاناتها المتواضعة أمام جيشٍ يستخدم الذكاء الاصطناعي وأقوى الأسلحة البحرية والبرية والجوية، أنها تشتبك مع جيش خائف، أوهن من خيوط العنكبوت، ويحتاج لدعم قوة عظمى وضباطها واستخباراتها وأسلحتها وذخائرها وإمداداتها وحمايتها ليستطيع ارتكاب جرائمه لأنه، بالدرجة الأولى، يخشى على استمراريته.