قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إن «مستقبل أوروبا على المحك» وإن «روسيا قد تهاجم دول الناتو إذا فشل الغرب في دعم أوكرانيا»، وإنه «لا يوجد إجماع على إرسال ودعم أوكرانيا بقوات برية (قوات أوروبية لتحارب روسيا)»، من دون أن يستبعد هذا الاحتمال مستقبلاً غير آبه بما يمكن أن يؤدي إليه انخراطُ قواتٍ من دول الناتو تملك قوةً نووية في حرب مباشرة مع روسيا.
واعتُبر كلام ماكرون بمثابة تمهيدٍ لإعلان حرب أوروبية على روسيا بعد عامين من الحرب الغربية التي تدور رحاها على الأرض الأوكرانية والتي أفضت لخسارة كييف نحو 30 في المئة من أراضيها. إلا أن أوروبا تعاني وضعاً اقتصادياً وسياسياً حرجاً بينما أظهرتْ موسكو أنها مازالت تملك المبادرة وتحتلّ أراضي جديدة ولا توجد لديها خطط لوقف الحرب قريباً في غياب أي مبادرة سلام أو استسلام.
تجتاج أوروبا موجاتٌ من التظاهرات الدورية من المزارعين الذين يعترضون على إدخال البضائع الأوكرانية الرخيصة الثمن والنوعية والمعفية من الضرائب ومن التدابير الصارمة التي فرضتْها المجموعة الأوروبية عليهم، ما تَسَبَّبَ بارتفاع التكلفة ومعها غلاء المعيشة والتضخم وفقدان اليورو لقيمته الشرائية. وما زاد الطين بلة بعد إقفال طويل بسبب فيروس «كوفيد - 19»، هو القرار الأوروبي بمنع استيراد الطاقة الروسية لتحلّ مكانها في شكل كبير الطاقة الأميركية والنروجية التي كلفت الأوروبيين أربعة أضعاف، ما رفع أسعار الطاقة على المواطنين والشركات التي تهاجر لدول أخرى خصوصاً نحو الشرق وأميركا حيث الطاقة موجودة وبأسعار أرخص بالإضافة إلى حوافز ضريبية وتخفيضات لسنوات طويلة خصوصاً للصناعات الأوروبية المهاجرة.
ومع اشتداد الحرب في أوكرانيا وانغماس أوروبا فيها، نَفَذَتْ مخازنُ الأسلحة في الاتحاد الأوروبي، وتَقَدَّمَتْ القواتُ الروسية على الجبهات لدرجة أن القارة الأوروبية أصبحتْ تَعتمد أكثر من أي وقت على «الحماية الأميركية» المتمثلة برفع أعداد القوات في حلف الناتو الذي وسّع انتشاره في الدول الأعضاء وبالأخص في الدول الأوروبية الشرقية المقابلة لروسيا وبلاروسيا وأوكرانيا.
وظَهَرَ الانشقاقُ الأوروبي منذ بداية الحرب حول شراء الغاز الروسي أو الاستغناء عنه، وتَطَوَّرَ عندما قررتْ المجموعة تقديم 54 مليار دولار لأوكرانيا – بعدما فشلت الإدارة الأميركية بتقديم 60 ملياراً – على حساب دستور الدول الأوروبية التي تتطلب موافقة جميع أعضاء الاتحاد الـ27، ورفض هنغاريا الموافقة على تقديم المال لكييف.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلايين حينها إن «المال سيُقدم لأوكرانيا حتى من دون موافقة جميع الأعضاء» بما يمثل خرقاً صارخاً لمبادئ الاتحاد.
لكن القبول الشامل حَصَلَ بعد نقاش طويل وضمانات، لتتلقى أميركا قبل أوكرانيا الخبر بسرور عظيم لأن باب الربح يصبّ دائماً في جيوب شركات السلاح الأميركية.
«أتمنى أن يوافق الكونغرس على إعطاء أوكرانيا الـ 60 مليار دولار كما فعلت أوروبا. في نهاية الأمر، ستعود أكثر هذه الأموال لأميركا من جديد لأن أوكرانيا ستشتري السلاح منها وهذا سيعود بالفائدة على الشركات (السلاح) الأميركية». هذا ما قالته فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأميركي وعرّابة تظاهرات الميدان الأوكراني عام 2014 التي أطاحت بالنظام غير المعادي لموسكو ليحلّ مكانه نظام يجلس في حضن أميركا ويحضّر كييف للحرب مع روسيا، كما أقرت المستشارة الألمانية انجيلا ميركيل، عرّابة «اتفاق مينسك» الفاشل، وأكد على ذلك الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند.
وقبل مدة قصيرة عقد قادة مجموعة الدول السبع مؤتمراً مع رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي عبر الفيديو في ذكرى دخول الحرب عامها الثالث. وأكد هؤلاء أنهم يبحثون عن سبل لحمْل موسكو على دفْع ثمن الأضرار الناتجة عن الحرب. إلا أن لهذا القرار تبعات على الشركات الغربية التي تركت روسيا بسبب العقوبات وكذلك على الالتزامات الغربية تجاه موسكو التي تملك أسطولاً جوياً – غربياً - مدنياً لم تدفع ثمنه وتستأجره من الشركات الغربية.
لذلك فإن هكذا قرار غربي يُعتبر سيفاً ذي حدين، ومن نتائجه إخافة الدول الغنية التي لن تتردد في سحب ودائعها من الأصول الغربية إذا شعرت بأن احتجازها والتصرف بها مسألة سهلة عندما ترى الدول سبباً يتناسب مع سياستها الخارجية.
وقبل عامين، اجتاحتْ موسكو أوكرانيا على أكثر من محور لتبدأ حربٌ طاحنة مازالت تحتفظ بشدّة اندفاعتها على جبهات عدة، احتلت فيها روسيا غالبية الأراضي في مقاطعات لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون بعدما كانت ضمّت جزيرة القرم سابقاً، من دون أن يبدو أن هناك نهاية تلوح في الأفق.
ولغاية اليوم، لا يبدو أن الطرفين يريدان أو يستطيعان حَسْمَ المعركة. إذ إن أوكرانيا عاجزة عن استرداد أراضيها خصوصاً بعد الكارثة الإستراتيجية التي حلّت بها عقب فشل الهجوم المضاد وتَحَطٌّمه في مواجهة خطوط الدفاع الروسية.
وقد تحوّلت روسيا إلى الهجوم من جديد وإلى اتباع سياسة القضم المدروس والبطيء ولا سيما بعد سقوط باخموت وأخيراً أفدييفكا في مقاطعة دونيتسك.
ومازالت موسكو تصرّ على اتفاقٍ خطي - بعد فشل المحاولة السابقة في إسطنبول - تؤكد فيه أوكرانيا عدم اندماجها ضمن حلف «الناتو»، وهذا المطلب مستحيل من دون تعديل الدستور، وكذلك انهاء التيار النازي في البلاد، وهو أيضاً مطلب لا يستطيع زيلينسكي تحقيقه لِما يتمتع به هؤلاء من قوة ودعْم داخل الدولة.
ومازالت أميركا في المقابل تصرّ على عدم إعلان هزيمة 50 دولة غربية مقابل روسيا وتتمسّك باستمرار المعركة مادامت أوكرانيا مستعدة لتقديم أبنائها على مذبح السياسة الخارجية الأميركية وشعار «أميركا أولاً»، وما دامت المجموعة الأوروبية تقدّم الدعم الاستخباراتي واللوجستي والسلاح والمال ومستعدّة للذهاب نحو تقديم الرجال إذا حصل تَوافُقٌ أوروبي يبدو بعيداً في الوقت الراهن على الرغم من محاولات الرئيس الفرنسي.
لقد سقط العديد من الجنود الأوكرانيين والروس ودُمّرت أسلحة فتّاكة واستُخدمت كمية خيالية من الذخيرة وتحوّلت أوكرانيا حقلَ تجارب للأسلحة والتخطيط العسكري. ودُمّرت اقتصاداتُ دولٍ وارتفعتْ أسعار الطاقة ودُفعت عشرات المليارات وخَسرت دول عدة مئات المليارات من دون سقوط جندي أميركي واحد في حربٍ تقودها واشنطن بأدوات أوروبية.
وتضخّمت أموال شركات السلاح الأميركية، وتحوّلت أوروبا ساحةَ حرب وساحةَ دعْمٍ لوجستي ونصرة لمبادئ بعيدة عن قِيَم الديموقراطية ومصلحة الشعب الأوروبي خصوصاً بعد موقف دول الغرب من الحرب على غزة وعدم التزامها بالقوانين الدولية والكيل بمكيالين.
ويبقى الجواب النهائي لاستمرار أو توقف الحرب بيد نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولهذا فإن أشهراً طويلة تبشّر باستمرار حربٍ يبدو أن نتائجها قد تكون أكثر وضوحاً للمتحاربين من الطرفيْن وكذلك للداعمين لها.