إنّ القارئ يكون له أحياناً نوع من التنفيس أشبه بالزفير عن بعض المعلومات التي قرأها أو الأفكار التي تكوّنت له من خلال قراءاته، وكثيراً ما يكون له وجهة نظر مختلفة وأحياناً تكون مميزة أو هو يظنها كذلك، وبناءً على ما يقرأ يحتاج أن يعبر عن أفكاره إما بالكتابة أو الكلام مع من يشاركونه الاهتمامات ذاتها ويبادلونه الأفكار والآراء.
إذا نظرنا للكاتب من الداخل فهو شخص في الغالب يعاني من ازدحام أفكار يرتبها وينظمها ويخرجها من حيث تجتمع نقطة ضعفه مع قوته التي هي التعبير بالكتابة والتي تصبح حاجة غالباً، فيرى بعض القراء جمال بيانه وحسن صياغته، فينظر له على أنه مثقف مبدع أو كما يقول إخواننا المصريون: «جاب التايهه» رغم أن الكاتب في مشواره إنما هو في مرحلة تعلّم واستفادة مستمرة مهما أبدع ومهما كتب ومهما مُدح... ولو ظن بنفسه الوصول لهلك!
جميل أن يلتفت الإنسان بشكل عام والقارئ والكاتب ومن يدعي الثقافة بشكل خاص إلى تجديد الأفكار والمعلومات التي بنيت مع الزمن وتلك التي اكتسبها بالتلقي تحديداً، وبناء أفكار واكتساب معلومات جديدة تعتمد على البحث والنظرة الأوسع والأشمل للأمور، والنظر للأشياء من زوايا عدة، على عكس ما تنتجه القراءة ذات الاتجاه الواحد، المصحوبة بشيء من التحذير والتنبيه بعدم الاطلاع على الرأي الآخر، سواء كان غربياً أم كان صاحب عقيدةٍ مختلفة أو أقلها؛ صاحب رأي مخالف، منتجاً بذلك آلة تسجيل ونقل لا عقل يفكر ويحلل ويستنتج، وهذا ما كان يزرعه البعض في الناس تجاه الغرب خوفاً من التغريب الفكري، فلا هم درسوا مجتمعنا وأنتجوا ما يتناسب معه، ولا هم أتاحوا لغيرهم الاستفادة مما أنتجه الغرب... بل ومن يفعل يكن بنظرهم مندساً!
ولما أصبح الغرب متقدماً علمياً، وأصبح الزمن لا كالزمن مع الانفتاح... بات الناس يطبقون نظرية «السوبر ماركت» فيأخذون من نتاج الغرب ويسقطونه على دراساتهم، ولعلها لا تصلح لثقافتنا أو لنسيجنا الاجتماعي.
بين الحين والآخر، يصلني تعليق محايد على كتاباتي لا يؤيدني ولا يعارضني، إنما يدهشني ببُعد النظر وعمق الرؤية ما يجعلني أنسف الأفكار نسفاً وأُعيد ترتيب الأولويات الفكرية وقراءاتي واهتماماتي وكأنني أبدأ من الصفر... يجعلني ألتفت لما لم أكن أراه، وأفكر بما لم أكن أفكر به، وبذلك أتعلّم آراءً وأفكاراً اختصرَ بها عليّ سنوات، حينها أعرف فائدة الخبرة وتعدد الأفكار واختلاف وجهات النظر التي جعلها الله سُنّة كونية في البشر، والأهم مدى أهمية العقل الذي هو أقوى وأعظم ما خص الله به الإنسان، وألا نحجّم هذه النعمة الإلهية التي باستعمالها يكون شكر الله تعالى، كذلك جميل أن يكون للكاتب شخص صاحب خبرة ورأي واطلاع وثقافة يشير عليه، والأفضل حينما لا يملي عليك رأياً بقدر ما يلفت نظرك لفكرة أخرى ورأيٍ مختلف ونظرة أبعد ويجعلك تختار وتشكّل نظرتك المختلفة بسلاسة، فيصنع منك مفكراً وصاحب رأي، لا متبعاً.
أعتقد أن الإيمان بقضية أمرٌ مهم، والأهم منه إيمان الشخص بضرورة التفكير ونسف المعلومات بين الحين والآخر، ومعرفة الثوابت والمتغيرات، وبناءً عليه تحديد الأولويات التي يمكن من خلالها تحديد خط القراءة ثم الكتابة، ولا مانع من تغيير الخطة التي يظنها الكاتب تؤدي به لغايته المرجوة، فإن ظن ذلك فهي تؤدي به فقط للتنفيس عما قرأ لا لمناقشة قضايا مجتمعية وطرح حلول لها، لأن المجتمع متغيّر والأفكار متجدّدة والآراء مختلفة والدنيا تسير كخبط عشواء.