حرب غزة وضرْب رفح... يكشفان فشل الأحادية والمؤسسات الدولية

17 فبراير 2024 10:00 م

بدأ الفلسطينيون رحلةَ الهجرة الداخلية مجدداً من مدينة رفح الحدودية نحو دير البلح، بحثاً عن أماكن أقلّ خطراً بعدما بدأتْ قواتُ جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف المدينة. واتخذتْ القاهرة موقفاً واضحاً بمنْعها هجرة ثانية (الأولى عام 1948) للفلسطينيين نحو سيناء، في حين فشل النظام العالمي وسط هيمنة الولايات المتحدة، في وقف حرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الهمجية على الشعب الفلسطيني.

في مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن «الوضعَ في غزة يمثّل مأزقاً وصلتْ إليه العلاقاتُ الدوليةُ وعالمُنا يواجه تحديات وجودية، وأن المجتمع العالمي أكثر انقساماً وتَشَرْذُماً من أي وقت مضى خلال 75 عاماً». ومما لا شك فيه أن فشلَ المؤسسات الدولية وخصوصاً الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية في إدارة النزاعات أو حلّها بشكل فعال يترك آثاراً كبيرة على السلام والأمن العالمييْن ويقود إلى تحديات للهيكلية السياسية الدولية وضرورة إعادة صوغ القوانين الدولية والالتزام بها من دون تمييز، وأن أحاديةَ الولايات المتحدة وسيطرتها على العالم قد فشلت في إحلال السلام لتصبح جزءاً من المشكلة وليس الحل.

وهذا ما أَظْهَرَتْه أحداث عدة وظهّرتْه بما لا يقبل الشكّ الحربُ الإسرائيلية المدمّرة على غزة.

ومما لا شك فيه أيضاً أن حق النقض الذي يتمتع به الأعضاء الخمس الدائمون (أميركا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) في مجلس الامن غالباً ما يؤدي إلى فشلٍ مثلما يحدث في حرب غزة حيث تستخدم أميركا حقها لوقف أي قرار لا يصبّ في مصلحة إسرائيل، من دون أن تمانع (واشنطن) أن تقف وحدها أمام العالم وإرادته، حتى ولو أدى ذلك إلى المزيد من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وإعاقة المساعدات الغذائية للشعب الفلسطيني.

وكذلك تفتقر محكمة العدل الدولية، رغم كونها الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، إلى سلطة التنفيذ المباشر لأحكامها. إذ تعتمد هذه الأحكام على الامتثال الطوعي من جانب الدول التي غالباً ما تتجاهلها في غياب الاجماع العالمي وعدم رغبة الدول القوية في فرْض هذه الأحكام، تماماً كما يحصل في دعوى جنوب أفريقيا ضد جرائم إسرائيل واتهامها بإبادة الفلسطينيين خصوصاً حيال أمر المحكمة بإدخال المساعدات لغزة، وهذا ما تم تَجاهُله.

ويعود هذا الخلل لإعطاء الدول القوية الأولوية لمصالحها الإستراتيجية والوطنية وتَجاهُل العمل الجَماعي وعدم الامتثال للمعايير الدولية ما يشلّ النظام العالمي العادل.

إضافة إلى ذلك، فإن الدول القوية الغربية خصوصاً أميركا تمارس نفوذاً كبيراً على المؤسسات الدولية، ليس فقط من خلال حق النقض (الفيتو)، بل أيضاً من خلال مساهمتها الكبيرة في ميزانيات هذه المنظمات. وتالياً فإن النفوذ المالي يُترجم إلى نفوذ سياسي يؤدي إلى انحراف الإجراءات والقوانين للهيئات الدولية، وقدرة هذه المؤسسات على التدخل في الصراعات والحروب ولوقف ارتكاب الفظائع والجرائم.

وهذا ما يعرّض سلامة وأمن موظفي الأمم المتحدة، حيث للمرة الأولى منذ تأسيسها، يُقتل 144 من موظّفيها في حرب واحدة ومدة قصيرة، كما فعلتْ إسرائيل في غزة. ويمثّل استخفافاً بقدرة هذه المؤسسات وتحدياً لسلطتها وقدرتها على العمل والبقاء والاستمرار، كما يؤدي إلى تآكل الثقة بإمكان أن تقوم هذه الهيئات الدولية بحماية الآخرين أو حتى حماية نفسها.

كما يُضْعِف الإطار المعياري الذي يقوم عليه النظام الدولي ويتسبّب بنظام فوضوي انتقائي يؤدي إلى تساؤلات حول مدى أهمية وفعالية الأمم المتحدة أو القوانين الدولية والمؤسسات التي تمثّلها في مواجهة التحديات العالمية.

وهذا الفشل، أو الشلل، يؤدي أيضاً لعواقب مأسوية يتحمل تبعاتها السكان المدنيون العالقون في مناطق النزاع ما دام التدخل الدولي غير فعال، والقادة والمسؤولون عن إعطاء أوامر القتل وارتكاب الجرائم لا يُحاسَبون على أفعالهم ويُسمح لهم بانتهاك حقوق الإنسان مثلما يحصل منذ 135 يوماً في غزة.

ويتطلب استعادةُ الثقة الدولية بالأنظمة العالمية، مساراً لإعادة هيكلة الحوكمة الدولية وإصلاحات وصلاحيات لمجلس الأمن يستطيع من خلالها تنفيذ الأحكام الدولية وفرْض القوانين الدولية بالتساوي على الجميع، وإيجاد أساليب جديدة لحل النزاعات والحرب ومنْع الولايات المتحدة من التصرّف - من جانب واحد أو ضمن تحالف من الراغبين - على قاعدةِ دَعْمٍ مثيرٍ للجدل مثلما يحصل لإسرائيل التي خرجتْ عن سيطرة الأمم جميعها، بما فيها أميركا.

وهذا ما أدى إلى خلاف ظاهر حتى بين الحلفاء الغربيين الذين يدّعون تَشارُكَ «القِيَم الديموقراطية والمصالح الإستراتيجية المشتركة» ولكنهم يختلفون حول سياسات عدة خارجية واقتصادية إستراتيجية، من دون أن تكون لديهم القدرة على إحداثِ أي تغييرٍ ما.

وليس جديداً على أميركا اتخاذ قرارات أحادية مثلما تفعل اليوم في البحر الأحمر وانتشارها في الممرات المائية الإستراتيجية، نصرةً لإسرائيل لتكمل حصارَها الخانق على الشعب الفلسطيني. وهذا ما يشجّع الحوثيين على فرض حصار مائي على إسرائيل تطوّر لتحدي أقوى إسطول غربي، الولايات المتحدة وبريطانيا، وضرْب واستهداف سفنهما، غير آبهين بالقوة والقدرات التي تتمتع هاتان الدولتان بها.

وهذا ما يؤدي إلى تآكل سياسة الردع الأميركية وإعادة النظر، من كثير من الدول، بجدوى إبقاء تحالفها فقط مع أميركا وبريطانيا، وضرورة توسيع العلاقات بسبب فقدان واشنطن ولندن مكانتهما وهيمنتهما وقدراتهما، وخصوصاً أنهما تحميان إسرائيل التي تنتهك القوانين الدولية ولا تأبه بها ولا بنتائجها عليها.

وما زاد الطين بلة هو طلب أميركا الوساطة من إيران وطلب بريطانيا التوسط من الصين لإقناع الحوثيين بوقف الضربات ضد سفنهما والسفن الإسرائيلية بدل وقف القتل المتعمّد في غزة ووضْع حدّ للجنون الإسرائيلي.

كل هذا لم يُثْنِ نتنياهو عن المضيّ في أهدافه المعلَنة باحتلال غزة بعد تدميرها واستمرار الحرب لاحتلال المدينة الحدودية رفح والعمل لتحقيق نصر ما ليبقى في الحُكْم، غير آبه بالشعب الفلسطيني ولا بأعداد القتلى والجرحى ولا بتهجير الفلسطينيين من الشمال إلى الجنوب، ومن ثم من الجنوب إلى الشمال، ولا بتدمير البنية التحتية ولا حتى بالمؤسسات الدولية التي قَتَلَ منها ودَمَّرَ أبنيتها. وللتغطية على جرائم جيش الاحتلال، تتهم إسرائيل الأمم المتحدة بالتعاون مع «حماس» بهدف وقْف الدعم الدولي عن ملايين الفلسطينيين في فلسطين والأردن ولبنان وسورية.

ولا يهتمّ نتنياهو بالأسرى الإسرائيليين الذين يشكلون عبئاً عليه ولا بحلفائه وعلى رأسهم أميركا التي تتوسّل وقفاً لإطلاق النار - ولكنها لا توقف إمداد السلاح - ليتسنى لها التركيز على حملتها الانتخابية حيث يواجه بايدن خصماً قوياً مثل دونالد ترامب.

وهذا دليل فشل النظام العالمي والأحادية في تحقيق العدالة والاستقرار والأمن وقانون المحاسبة للمستحقين. وتالياً، فإن بروزَ نظام جديد أصبح ضرورةً مُلَحّة كي لا تدخل الإنسانية في عالم الغاب وشريعته حيث لا قانون يَحْكُمُ إلا لغة القوة.