آمنا رحلت، على بساط الإيمان والحق. حكمت... فعدلت.
لم يكن الحق كلمة في عباراتك فحسب بل هو نهج حياة ارتضيته ولم تحدْ عنه إيماناً بقوله تعالى:» فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ». وما كانت طاعة الله العلي العظيم سوى رأس الحكمة لديك وفعل إيمان ونهج حياة.
كم كنت شبيهاً بالكويت، أرضك وناسك وتراثها وماضيها وحاضرها، وكم كنت بصيراً في أسرة الخير تنظر إلى الأمور كما يجب أن تكون لا كما فرضتها الظروف. أعدت الأمور إلى أساسياتها وفطرتها الأولى. أبلغت أبناء أسرتك الصغيرة أنهم يجب أن يكونوا القدوة في السلوكيات والعمل والحضور، وأن السياسة تعني فن تكريس المبادئ لا فن التملّص منها، وأن التوافق مع أهل الكويت هو الدستور الأساسي قبل قرون من الزمن وأي تجريح لهذا التوافق ضرب للعهد والعقد والميثاق.
وأبلغت أسرتك الكبيرة، أهل الكويت على تنوّع مشاربهم، أن الميزان يكيل بمكيال واحد في الحقوق والواجبات، وأن أمن الكويت واستقرارها وسلام ساكنيها خط أحمر، وأن الحزم في تطبيق القانون أولوية على الشعارات والتعريفات مثل «الدهاء والمرونة»، وأن الحكم ملح الأرض يتطلّب عدلاً في الرعية وينبذ الالتفاف على العدل بحجج الضرورة والمواءمات السياسية تيمناً بحديث الرسول الكريم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا».
في تقويم الزمن، لم تكن القيادة عبر مسند الإمارة طويلة، لكن القيادة بكل أهلها توفّرت بكم منذ التدرج الأول، في قصر دسمان وفي مدرسة المباركية، وفي مؤازرة إخوانك الأمراء، وفي منصب المحافظ، وفي نيابة رئاسة الحرس الوطني، وفي وزارات الشؤون والدفاع والداخلية، ثم في ولاية العهد أميناً وعضيداً لأمير الإنسانية الراحل الشيخ صباح الأحمد... في كل تلك المناصب كنت رائداً تزرع بصمة خاصة وتحصد المحبة والولاء والإنجاز، وفي كل تلك المناصب كنت أميراً بعدلك وحكمتك ورؤيتك وهدوئك. لا تغضب من نصيحة ولا تبخل بنصيحة «فالدين النصيحة» و»إذا استنصحك فانصح له».
وعندما تسلّمت مسند الإمارة نقلت كل ذلك التاريخ إليه. لم يكن المنصب غريباً عنك ولم تكن غريباً عليه. بقيت الأكثر التصاقاً بالكويت، تستقبل الجميع بقلب مفتوح. يشعرون أنك أخ كبير أو أب لهم، تسأل عن كبارهم وتتحرّى أخبار صغارهم، تُبادر إلى الاتصال والاطمئنان على الكبار وتُوصي زائريك بأن ينقلوا الى صغارهم «توصيات أبوكم نواف لكم بأن تكثروا من العلم اليوم كي تصبحوا قادة الغد».
وبين شؤون الحكم وإدارة الدولة والاستقبالات والاجتماعات والتوجيهات، يبقى الوازع الديني سيد الأحكام، وتبقى الواجبات الإيمانية جرعة الروح التي غذت قيم العدل والمساواة وأمدتك بسلاح الصبر وألهمتك نعمة البصيرة. تدخل المسجد وحيداً وتجلس وحيداً وتقرأ ما تيسر من الذكر الحكيم وتتلو الدعاء وتطلب الحماية والأمن والأمان والتقدم للكويت وأهلها... ثم تغادر وحيداً وتتحدث مع من يتجمعون أمام سيارتك مُرحّباً مُبتسماً مُوجّهاً. وكم كنت رحمك الله تُردّد قول الفاروق عمر رضي الله عنه:» «وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيفِك، ولا ييأس ضعيف في عدلك».
«وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». كانت من الآيات الكريمة التي رسمت خريطة الطريق لمرحلة كويتية ظللتها السعادة وتوجها الفرح. لقد أثبتّ يا أمير العفو والتسامح أن الكويت تسكن في صدور أبنائها مهما أبعدتهم المسافات وأنها قلوبهم النابضة بالمحبة والانتماء.
سيدي صاحب السمو أميرنا الراحل، سنعلّم أولادنا ما تعلمناه منك. أن تكون قلوبهم كبيرة بحجم قلب «أبونا» نواف، وأن القيادة في العمل حسم وحزم وحلم وحكمة ورؤية وابتسامة، فليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. وأن التواضع يزيدهم رفعة، وأن التكبر انعكاس لنقص والتوتر تعبير عن وهن.
ليس سراً أن الراحل الكبير الشيخ نواف الأحمد امتلك سر العلاقة مع أهل الكويت بعيداً من القوانين والدستور والأعراف والمجاملات. كانت كلماته عندما يحادثك تكفي لتمهيد كل طرق الاستجابة والحلّ، فهو يبدأ المكالمة «معاك والدك نواف» ويغرق السامع بالخجل... والفخر.
رحمك الله يا «أبونا نواف» لم يعرف الكويتيون عنك إلا الكلمة الطيبة ولم يسمعوا سوى التوجهات الأبوية مهما كانت الظروف قاسية، غرست في أسرتك ومحيطك كل أبجديات الأخلاق تيمناً بقول الإمام علي رضي الله عنه: «إنّ الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبينه». كم كنت قريباً من الله... والله قريب من المتقين.
رحمك الله يا والدنا وقائدنا... عزاؤنا أن الأمين على العهد سمو الشيخ مشعل الأحمد خير خلف لخير سلف سيكمل المسيرة، وهو الذي كان رفيق عُمْر وولي حقّ. غالب الدمع عندما كان يودعك في رحلات العلاج وخانه التماسك وانهمرت العبرات عندما ودّعك في رحلتك إلى دنيا البقاء. يقال إن القائد الحقيقي لا يحكم إلا برؤية العبور الى المستقبل وصنع الأمل... والشيخ مشعل يزرع التفاؤل ليحصد مستقبلاً أفضل للكويت والكويتيين.
رحمك الله يا والدنا وأميرنا... نظيف اليد، مرفوع الجبين، عشت ورحلت، تغمّدك العلي القدير بواسع رحمته وألهم الكويتيين الصبر والسلوان.