«الراي» تحدثت إلى وزير الزراعة عن الحرائق وخطة الطوارئ
... لهذا تحرق إسرائيل الأخضر واليابس جنوب لبنان
| بيروت - من زيزي اسطفان |
19 نوفمبر 2023
10:00 م
- الحاج حسن: طلبنا من «الفاو» إرسال خبراء إلى لبنان لفحص انعكاسات الفوسفور الأبيض على التربة والثمار والمحاصيل والمزروعات والمياه الجوفية
- 351 حريقاً بين 7 أكتوبر وحتى 16 نوفمبر طالت 53 بلدة في محافظتيْ الجنوب والنبطية وبلغتْ مساحة الأراضي المحروقة أكثر من 930 دنماً
- أدت الحرائق لتلف أكثر من 47000 شجرة زيتون وبينها أشجار معمّرة يعود تاريخها إلى مئة سنة وأكثر
- الأحراج التي التهمتْها النيران تشكّل 60 في المئة من مجمل المساحة المحروقة فيما الأراضي الزراعية تعادل 30 في المئة
- أسفرت الاعتداءات الإسرائيلية عن نفوق 200 ألف طير و700 رأس من المواشي وتَضَرُّر 250 قفير نحل
- وزارة الزراعة وضعتْ خطة طوارئ تُحاكي مختلف الاحتمالات وتتحسب لـ «الأسوأ»
- وزير الزارعة: يحدونا الأمل بأن نعود إلى العالم العربي وإلى بلدان الخليج بالذات وأن تقف الدول الشقيقة بجانبنا كما فعلتْ دائماً
منذ 8 أكتوبر الماضي، تتعرّض القرى الحدودية اللبنانية جنوباً لاعتداءات ممنهَجة في غمرة المواجهات المضبوطة حتى الساعة بين الجيش الاسرائيلي و«حزب الله»، والتي أطلّ من خلف دخانها ما يشبه «حرب الأحراج» التي تشّنها تل أبيب بقذائق حارقة محظورة دولياً.
وإذا كانت سياسة «الأرض المحروقة» التي تتبعها إسرائيل في الجنوب اللبناني تنطوي في جانبٍ منها على بُعد عسكري يتمثّل في تحويل الأحراج رماداً لكشف مقاتلي «حزب الله»، إلا أنها تحمل أيضاً بُعداً يهدف لتقويض صمود الأهالي في المناطق المستهدَفة عبر «حرق» المواسم الزراعية والمحاصيل الغذائية.
خسائر مادية بملايين الدولارات تصيب المزارعين وعبْرهم القطاع الزراعي والاقتصاد اللبناني ككل، ولكنها أيضاً خسارة ذات وقع كبير في نفوس أهل الجنوب المصابين في تراثهم وتشبّثهم بأرضهم.
«الراي» التقت وزير الزراعة اللبناني د.عباس الحاج حسن واطلعت منه على حجم الخسائر التي أصابت القطاع الزراعي في الجنوب.
وزارة الزراعة تحصي بشكل شبه يومي ما تتعرّض له المواسم الزراعية والثروة الحرجية والحيوانية من أضرار نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية. والحصيلة باتت ثقيلة جداً والتكلفة عالية على المزارعين كما على الدولة اللبنانية. ويقول وزير الزراعة: «العدو الإسرائيلي يرمي إلى إيذاء لبنان وهزيمته من بوابة الزراعة. فهو أولاً يهدف إلى حرق المواسم والأشجار وإصابة القطاع الحيواني لمنْع المزارعين من استغلال مواسمهم والعودة الى أراضيهم. ويهدف ثانياً، ولهاجسٍ أمني وعسكري لديه، إلى القضاء على الغطاء الأخضر لكشْف ظهر المقاومة».
الأرقامُ مخيفة والخسائر لا تقتصر على الماديات فحسب بل ثمة خسارة معنوية هي الأشد خطراً. فالعدو الذي يستهدف أشجار الزيتون يريد كما يقول وزير الزراعة «اقتلاع رمز مرتبط بتاريخ لبنان وأهل الجنوب وتعلُّقهم بأرضهم وزيتونهم، ويريد إزالة التاريخ وهو ما قام به أيضاً في بيت لحم عبر اقتلاع أشجار زيتون معمّرة مرتبطة بتاريخ المكان. ومَن يستطيع أن يقدّر القيمة المالية لشجرة زيتون يتخطى عمرها 250 سنة عايشتْ أجيالاً من أهل هذه الأرض؟».
وفي إحصاءاتٍ شملت الفترة الممتدة بين السابع من أكتوبر حتى 16 نوفمبر حول الاعتداءات الاسرائيلية على الأراضي اللبنانية والتي أدت الى نشوب حرائق، بيّنت الأرقام أن عدد الحرائق وصل إلى 351 طالت 53 بلدة في محافظتيْ الجنوب والنبطية، وبلغتْ مساحة الأراضي المحروقة أكثر من 930 دنماً.
وقد أدت هذه الحرائق إلى تلف أكثر من 47000 شجرة زيتون وبينها أشجار معمّرة يعود تاريخها الى مئة سنة وأكثر أحياناً. كما أدت إلى احتراق مساحات من الأشجار الحرجية من صنوبر وسنديان، ومعروف أن هذه الأنواع من الأشجار التي يتميز بها لبنان تحتاج الى سنوات طويلة لتنمو من جديد وتستعيد اخضرارها بعد الحريق. وتُشَكِّلُ الأحراج التي التهمتْها النيران 60 في المئة من مجمل المساحة المحروقة، فيما الأراضي الزراعية التي تحمل أشجاراً مثمرة من حمضيات وزيتون ورمان وغيره تعادل 30 في المئة من هذه المساحة.
وفي حين تضررت أيضاً أكثر من 60 خيمة زراعية تُستعمل لزراعة الخضار، لم يتوقف الضرر الناجم عن الاعتداءات الإسرائيلية على المزروعات بل طال أيضاً الحيوانات ولا سيما الدواجن والمواشي.
وقد أسفرت الاعتداءات وفق إحصاءات وزارة الزراعة حتى اليوم عن نفوق 200 ألف طير و700 رأس من المواشي بالإضافة إلى تَضَرُّر 250 قفير نحل.
وإلى هذه الأضرار والخسائر الكبيرة التي نكبت المزارعين في قرى الجنوب حَصَلَ تدميرٌ كلي لمستودع للأعلاف يمتدّ على مساحة 600 متر مربع وقصْفٌ لعدة مخازن للأعلاف ومستودعات لتخزين المحاصيل الزراعية ومنها التبغ، ما زاد من الخسائر وصعّب الأمور أكثر على المزارعين ومربّي الدواجن والمواشي. كما تبلّغ وزير الزراعة أثناء لقائنا معه أن أربعة حرائق نشبت في قرى جنوبية ولم تتمكن الجهات المختصة من «يونيفيل» وقوى محلية من إطفائها بعد.
هي حصيلة ثقيلة مرشحة للازدياد مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية ومع وجود مناطق يصعب الاقتراب منها لإحصاء الأضرار الواقعة فيها بسبب مخاطر الأوضاع الأمنية والعسكرية. وإذا كانت الأرقام الكارثية تعكس الواقع الحالي، فإنها لا تكشف ما يخفيه مستقبلٌ ينذر بأن يكون أسوأ.
ويقول الحاج حسن: «حتى اليوم لا نعرف بالضبط ما تأثير القنابل الفوسفورية على التربة، وقد طلبنا من منظمة الفاو إرسال خبراء الى لبنان لفحص انعكاسات الفوسفور الأبيض على التربة والثمار والمحاصيل والمزروعات كما على المياه الجوفية. فهذه السموم قد تسبب أضراراً بعيدة المدى لم تتكشف كلياً بعد».
جريمة مستمرة تطول الأرض بقدر الإنسان وتهدّده في حياته ولقمة عيشه وفي مستقبله. ويؤكد وزير الزراعة «اليوم وفي خضم الاشتباكات الدائرة والاعتداءات المتكررة نحن غير قادرين على دعم المزارعين لكننا نسعى قدر الإمكان لإجراء مسح للمساحات المتضررة ووضع تقديرات بالخسائر ليتم في ما بعد مواءمة الأرقام بين المراجع التي تعنى بالمسح مثل مجلس الجنوب والقوة الدولية (»اليونيفيل«) لنتمكن في ما بعد من وضع خطة لمساعدة المزارعين.
ولكن ما يمكننا التأكيد عليه هو صرختنا في وجه المعتدي: أنت تخرب وتحرق، لكننا سنزرع مكان كل شجرة زيتون محروقة عشرة أشجار. وقد وقّعنا اتفاقاً للحصول على 250000 غرْسة زيتون مجاناً من منظمة أكساد التابعة لجامعة الدول العربية. كما طلبنا مساعدة من تركيا على هامش القمة العربية الإسلامية الطارئة التي عُقدت في الرياض لإعادة تشجير الثروة الحرجية وبساتين الزيتون».
الحكومة اللبنانية المستقيلة وضعت خطة طوارئ لمواجهة إمكان توسع رقعة الحرب وتحوّلها اعتداء شاملاً يطول كل لبنان. وكان لوزارة الزراعة دور أساسي في الخطة التي هدفت أولاً الى مساعدة المزارعين على الصمود في أرضهم «لأن الصمود في ذاته انتصار وتحدٍّ للعدو».
أما التمويل وفق الحاج حسن «فمن الهيئات المانحة والمنظمات العالمية مثل الفاو وبرنامج الأغذية العالمي والـ UNDP».
نحاول التعمق أكثر في بنود خطة الطوارئ الزراعية مع وزير الزراعة وأهميتها في حال حدوث اعتداء شامل، فيقول «إن الزراعة هي الحَجَر الأساس في الأمن الغذائي، ولذا لا بد من التركيز على ما يحمي الزراعة ومنتجاتها. بدايةً كان علينا السعي لتأمين أماكن آمنة تتيح للمصالح الزراعية في منطقة الجنوب الاستمرارَ بالعمل وذلك لتأمين استمرارية المرفق العام. كما كان علينا إيجاد مراكز لتخزين المواد الغذائية الأساسية من قمح وطحين وحبوب إذا تم قصْف المرفأ. وتَحَسُّباً لحدوث حصار مطبق، تَعَيَّنَ علينا إجراء دراسة شاملة لمعرفة إذا كان الانتاج المحلي الحيواني والزراعي والنباتي يكفي السوق. وحاولنا أن نقدّر مثلاً إنتاج الألبان والأجبان لمعرفة إذا كان كافياً وكم يمكن أن يدوم. ووَضَعْنا خطة تصدير ما يمكن تصديره وترْك المخزون الباقي للسوق المحلية. ودرسنا أيضاً إذا كان يجب إغلاق باب التصدير والاحتفاظ بكل المخزون للداخل. كذلك لحظتْ وزارة الزراعة خطةً لإجلاء الوزارة وموظفيها وتأمين أمنهم وسلامتهم واستمرار تأدية الواجبات من مركز آخر».
عبء كبير بلا شك تحمله وزارة الزراعة على كاهلها في هذه الظروف الصعبة التي قد يصبح الأمن الغذائي للبنان فيها مهدَّداً. ولكن رغم الظروف المالية الصعبة جداً التي يمرّ بها لبنان، فإنه مستعدّ وقادر على الصمود بما يتوافر فيه من إنتاج زراعي وحيواني. وحتى القمح تم رسم خطة سابقة لإنتاجه جرى بموجبها توزيع القمح الطري لتتم زراعته على مساحة تبلغ 40000 دنم، والوزارة سائرة في هذه الخطة لتأمين المزيد من الأمن الغذائي، «فالأمر لا يتعلق بصلاحيات أو إمكانات بل يتمحور حول الى أي مدى نحن قادرون ومستعدون للصمود في وجه هذا التهديد المباشر لكل لبنان؟ فالمقاومة الزراعية واجبة كما المقاومة الاقتصادية والعسكرية»، وفق الحاج حسن.
لكن تبقى صرخة يطلقها لبنان ووزارة الزراعة بشكل خاص إلى الأشقاء العرب للعودة الى احتضان لبنان لا سيما في هذه الظروف الصعبة: «يحدونا الأمل بأن نعود الى العالم العربي وإلى بلدان الخليج بالذات، ونحن نقوم بكل ما علينا ونهيئ الأرضية التقنية والفنية الصالحة لتكون منتجاتنا مطلوبةً في الدول الشقيقة. لكن إعادة الثقة تحتاج الى جهد. وفي انتظار الفرَج السياسي يحدونا الأمل في أن تقف الدول الشقيقة الى جانبنا كما فعلتْ دائماً».
«لن أغادر أرضي»
من أرض الجنوب تحدّثنا الى أبو عادل عبود، وهو مزارع كهل من بلدة عين إبل الجنوبية رَفَضَ مغادرة أرضه حتى حين كان العدو الإسرائيلي يحتل الشريط الحدودي.
وباندفاع وحزم، قال «لن أغادر أرضي اليوم. أنتظر فترات الهدوء حتى أذهب وحيداً لقطفِ ما يمكن من موسم الزيتون. وقد تأخرتُ في ذلك لأنني أعمل بلا مساعدة فيما كان عمال سوريون وبعض أبناء القرية يساعدونني في الماضي. لن أترك الموسم على الشجر ولو كلّفني ذلك حياتي، فالرزق أغلى من الروح. وكما فَعَلَ أبي وجدّي من قبلي سأحافظ على هذا التقليد. ليست المرة الأولى نتعرض فيها لاعتداءات ولن تخيفنا. نحتمي إذا حصل قصفٌ ونتابع عملنا بحذَر بعد ذلك. القصف حتى الآن لا يصيب القرى مباشرة بل أطرافها ومحيطها، والله العلي القدير هو الحامي».