«الراي» عاينتْ المخيمَ الجريحَ وتحرّتْ عن خفايا صراعاته وخريطة ألغامه السياسية - العسكرية

عين الحلوة بـ «العين المجرَّدة»... هدنةٌ فوق الفوهة

24 سبتمبر 2023 10:00 م
لم تَعُدْ «عين الحلوة» اسماً على مسمى. فهذه الجغرافيا، التي لا تتعدى مساحتُها الكيلومتر المربّع الواحد على حافةٍ صيدا، كانت اكتسبتْ شهرتَها من عين المياه العذبة فيها قبل أن تصبح عيْناً لعذاباتٍ تقطر دماً منذ أن تحوّلت في العام 1948 مخيماً للاجئين الفلسطينيين الذين فرّوا من بلادهم لـ «بعض الوقت» الذي صار... 75 عاماً.

العينُ مصلتةٌ دائماً على عين الحلوة، المخيّمُ الأكثر اكتظاظاً على الكوكب. ربما أكثر من 100 ألف لاجئ حُشروا في كيلومترٍ مربّع، ما جَعَلَه «عاصمةً للشتات» الذي يزداد تَشَتُّتاً على وقع صراعاتٍ أهليةٍ يَكْثُرُ فيها سفْكُ الدمِ لأسباب لا ناقة لفلسطين فيها ولا جَمَل... بل جُلّ ما يَحْدُثُ قتالُ أجنداتٍ تَجْعَلُ من الفلسطينيين البسطاء والبؤساء مجرّد... حَطَب.

فـ عين الحلوة تَدْمَعُ وَجَعاً هذه الأيام بعدما تَحَوَّلَ المخيمُ مَسْرَحاً عَبَثَياً لاشتباكاتٍ في أزقّةِ الحرمانِ والجوع... قتالٌ دارَ على جولتيْن بين جيوبٍ هنا ودساكر هناك، وتَمَّ تعليقُه على هدنةٍ مَشْروطةٍ يُخشى تَرَنُّحُها على وقعِ المصاعب التي تعترض نزْعَ فتيلِ الانفجارِ من جديد.

وفي ظل استمرارِ الأعصاب المشدودة والخشية من مغبّة سقوط اتفاق وقْف إطلاق النار مرة جديدة، عاينتْ «الراي» وبـ «العين المجرّدة» مخيمَ عين الحلوة وأحداثه المُرّة فأطلتْ على جغرافيته السياسية والعسكرية، أسباب الصراع الدامي فيه واحتمالاته، في ظلّ واقعه الصعب والوقائع المحلية والاقليمية التي تَحوطه.

مصادر فلسطينية أكدت لـ «الراي» أن مخيم عين الحلوة دَخَلَ عنق الزجاجة وهو يعيش للمرة الأولى أطول أزمةٍ منذ عقود بعد الاشتباكات الدامية التي اندلعتْ بين حركة «فتح» و«تَجَمُّع الشباب المسلم»، عقب اغتيال قائد قوات الأمن الوطني الفلسطيني في منطقة صيدا اللواء «أبو أشرف» العرموشي وأربعة من مرافقيه.

الاشتباكات الدامية التي اندلعت في جولتين، الأولى في 30 يوليو الماضي والثانية في 7 سبتمبر الجاري، أسفرت في حصيلتها عن سقوط 28 قتيلاً وأكثر من 225 جريحاً، ناهيك عن الأضرار الجسيمة في الممتلكات من منازل وسيارات، فضلاً عن حركة نزوح غير مسبوقة في تاريخ المخيم.

وبعد مضي نحو شهرين على الاشتباكات، لا تلوح في الأفق حلولٌ سياسية. فحركة «فتح» تصرّ على تسليم المشتبه بهم في جريمة اغتيال العرموشي وهي تفرض طوقاً عسكرياً عليهم في منطقتيْ الطوارئ والتعمير، بينما يرفض «التجمع» مبدأ التسليم غير الموجود في عُرفه أصلاً، ويصرّ على وقف إطلاق النار وإنهاء المَظاهر المسلّحة من دون أي شروط مسبقة.

وتؤكد مصادر فلسطينية أن أزمة عين الحلوة حَرِجة للغاية وهي طويلة، كون «فتح» ليست في صدد التراجع عن مطلبها تسليم الجناة خلافاً للسابق، إذ خسارتُها هذه المرة كبيرةٌ باغتيال العرموشي، وقد فقدتْ رأسَ حربةٍ في مَعاركها ضد المتشدّدين، وعاشت في أولى ساعات الاشتباكات حالة من الارباك ولا سيما أنها تزامنت مع تنفيذ هجماتٍ على معاقلها أكثر من مرة، فصمدتْ ونظّمت صفوفها حتى استعادتْ زمامَ المبادرة، ولكن عملية الحسم تبدو صعبةً ومعقّدةً ومُكْلِفَةً وهي تحتاج إلى وقت وغطاء سياسي وأمني لبناني وفلسطيني غير متوافر في ظل الأزمات التي يعيشها لبنان.

وما زاد في تعقيد المشهد الفلسطيني، أن الاشتباكات اتخذتْ أبعاداً سياسيةً كبيرة وكادت تُدْخِلُ القوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية في مواجهةٍ طاحنة، بعد تَبادُلِ الاتهاماتِ بين حركتيْ «فتح» و«حماس». فالأولى صوّبتْ على الثانية بأنها تقف وراء «التجمع» ودعْمه في محاولةٍ لإضعافها والإمساك بورقة المخيمات في معادلةِ المًحاور الاقليمية، بينما «حماس» اتّهمت «فتح» بتنفيذ مشروعٍ يهدف إلى تدمير المخيم وتهجير أبنائه وصولاً إلى شطْب حق العودة ورفْض التوطين من خلال الإصرار على تسليم المطلوبين.

وتعتبر المصادر الفلسطينية أن الخلافَ لم يقتصر على القوتين الرئيسيتين «فتح» و«حماس»، إذ كادت النيران أن تستدرج كافة القوى، بعدما جرت محاولةٌ لجرّ «عصبة الأنصار الإسلامية» إلى القتال ضد «فتح» على محور الصفصاف - الرأس الأحمر تحديداً، ولكنها فوّتت الفرصة. كما حصلت محاولةٌ لاستدراج «التيار الإصلاحي الديموقراطي» لحركة «فتح» بزعامة العميد محمود عبدالحميد عيسى «اللينو» - المُوالي للعقيد محمد دحلان المفصول من «فتح» - وتحديداً في منطقة «صفوري» وفشلتْ بعد ضبْط النفس في أعقاب استهدافِ مسؤوليْن من التيار ومقتلهما.

والأخطر أن الأمرَ لم يقتصر على الداخل الفلسطيني في المخيم، بل وصل إلى الجيش اللبناني حيث استُهدفت مواقعه ومراكزه العسكرية المحيطة بعين الحلوة أكثر من مَرة وسقط له عدد من الجرحى، لكن التعليمات كانت واضحةً بعدم الردّ منعاً لفتْح اشتباك، وسط تحذيرٍ من قيادة الجيش لأطراف النزاع من خطورة استمرار استهداف مراكزه، ناهيك عن محاولة تأليب الرأي العام اللبناني ولا سيما الصيداوي على المخيّم ومحاولة طرْح جدوى السلاح.

ويعود تعقيد المشهد الفلسطيني إلى معادلة المخيّم السياسية، حيث تتداخل القوى والنفوذ بين 4 أطر رئيسية هي:

* فصائل «منظمة التحرير الفلسطينية» بما فيها حركة «فتح» والتي تعتبر نفسها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في الشتات، وتستمدّ قوتها من السلطة الفلسطينية (برئاسة الرئيس محمود عباس).

• «تحالف القوى الفلسطينية» بما فيها حركة «حماس» وحركة«الجهاد الإسلامي»، وهما غير ممثلتيْن في منظمة التحرير الفلسطينية.

• «القوى الإسلامية» وهي «عصبة الأنصار الإسلامية» بزعامة «أبو محجن» السعدي المتواري منذ جريمة اغتيال رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية – الاحباش الشيخ نزار الحلبي، وهي تُعتبر قوة رئيسية في المخيم.

وضمن هذه القوى أيضاً «الحركة الإسلامية المجاهدة» بزعامة الشيخ جمال خطاب وهو إمامُ وخطيبُ مسجد «النور»، وتوصف حركته بأنها «الأكثر اعتدالاً والأقل مشاكل».

• «أنصار الله» وهو تنظيم فلسطيني إسلامي مستقلّ بزعامة جمال سليمان، لم ينضوِ تحت سقف «منظمة التحرير» ولا «تحالف القوى الفلسطينية» أو «القوى الإسلامية». وكانت قوّته الأساسية في مخيم المية ومية قبل مغادرته بتسويةٍ بعد معارك ضارية مع «فتح» نهاية 2018.

وتوافقتْ هذه الأطر الأربعة على تشكيل «هيئة العمل المشترك الفلسطيني» في لبنان برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري العام 2018، بعد خلافاتٍ بين حركتيْ «فتح» و«حماس»، وخلصتْ إلى ضرورةِ اعتبار الساحة الفلسطينية في لبنان استثنائيةً ووجوبِ تحييدها عن تداعيات الخلافات المركزية في الداخل، والعمل على وحدة الموقف لمواجهة الأزمات التي تعيشها المخيمات. وقد نجحت هذه الهيئة بتشكيل قوة أمنية مشترَكة في المخيم.

أما «تجمع الشباب المسلم» فيتشكّل من مجموعاتٍ من الناشطين الإسلاميين المتشدّدين كانوا سابقاً ينتمون إلى «جند الشام» و«فتح الاسلام» و«كتائب عبدالله عزام»، وسواها من التسميات التي تغيّرتْ وفق الظروف السياسية التي كانت تَحْكُمُ المخيمَ والمنطقةَ وتطوراتها العسكرية، بدءاً من العراق مروراً بسورية وصولاً إلى لبنان.

ويتوزّع هؤلاء في ثلاثة مربعات أمنية مغلقة هي عبارة عن أحياء داخل عين الحلوة، يتداخل في بعضها مع باقي القوى أو يتقابَل معها، أبرزها في منطقتي الطوارئ – التعمير التي تقابل البركسات حيث المقرّ الرئيسي لـ «فتح»، الصفصاف - المنشية التي تقابل «الرأس الأحمر» والطيرة، وحطين التي تقابل جبل الحليب - الكنايات، وقد اشتعلتْ كل هذه المحاور معاً في محاولة لتخفيف الضغط الناري عن منطقتي الطوارئ - التعمير.

وفي المعادلة العسكرية للمخيم يبدو أنّ الأمورَ صعبةٌ ومتداخلة لجهة الحسم وإنهاء المجموعات المتشدّدة، أولاً لأنها تنتشر في مربّعات مختلفة، وثانياً لأن بعض القوى الفلسطينية لا تسمح بذلك باعتبار أن الأمرَ يُعطي الغلَبة لحركة «فتح» في السيطرة على قرار عين الحلوة، وثالثاً لأنه في الترجمة العملية قد يتطّلب الحسم عمليةً عسكرية في هذه الأحياء تأخذ وقتاً طويلاً وتحتاج لخطوات تدريجية وتدميرٍ كامل للمنازل.

وفي خريطة طريق معالجة اشتباكات عين الحلوة، اتفقت القوى الفلسطينية وبدعمٍ لبناني سياسي وعسكري على مسارٍ تدريجي، يبدأ خطوةً خطوةً. الأولى وقف إطلاق النار، والثانية تشكيل لجنة تحقيق في اغتيال العرموشي، والثالثة إصدار تقريرها وهي اتهمت 8 مشتبَه بهم في الجريمة، والرابعة الطلب من المطلوبين تسليم أنفسهم طوعاً وهذا لم ينجح، والخامسة تعزيز القوة الأمنية المشتركة للقيام بالمهمات الموكلة اليها وخصوصاً في الجرائم الأخيرة بالمخيّم ما يعني عملياً جلْبهم بالقوة بالتوازي مع إخلاء مدارس «الاونروا»، ثم إزالة المظاهر المسلّحة ورفع الدشم والمتاريس التي ما زالت موجودة، قبل عودة النازحين إلى منازلهم، وأخيراً بلسمة جراحهم والتعويض عليهم مادياً.

وفيما صَمَدَ البند الأول المتمثل بوقف إطلاق النار، حيث لم يشهد خروقاً كبيرة منذ إعلانه بمساعٍ من الرئيس نبيه بري (قبل نحو 10 أيام) تتويجاً للجهود الفلسطينية واللبنانية الحثيثة، يشقّ البندُ الثاني طريقَه إلى التنفيذ بعد الاتفاق على تعزيز القوة الأمنية المشتركة في المخيم ورفْدها بالعناصر المطلوبة، حيث من المقرَّر أن تكون جاهزةً لتطبيق الأوامر السياسية المعطاة لها.

واليوم، تتّجه الأنظار إلى البند الثالث، حيث كَشفت مصادر فلسطينية لـ «الراي» أن «هيئة العمل المشترك الفلسطيني» في لبنان بصدد عقد اجتماعٍ لبحث تفاصيل هذه الخطوة حيث يُتوقع نشْر القوة الأمنية للحفاظ على الأمن ومنْع الاحتكاك تمهيداً لسحْب المسلحين من مدارس «الأونروا» الثماني، بهدف إبعاد المسلّحين عن بعضهم البعض، وترميمها لفتْحها أمام 5900 طالب فلسطيني، في وقتٍ ما زال البعض يراهن أو يرسل إشاراتٍ عن إمكان التوصل إلى تسوية مع المطلوبين بتسليم البعض لأنفسهم ولا سيما اللبنانيين، قبل تحديد ساعة الصفر لأي عمليةٍ عسكرية جديدة من «فتح»، تحدث عنها المشرف العام على الساحة عزام الأحمد في مهلة تنتهي آخِر سبتمبر الجاري.

من هنا ليس من الصعب استخلاص أن المشهد الفلسطيني اليوم معقّدٌ وعلى شفير هاويةٍ، مع إصرارِ كل طرف على موقفه، ما يعني في نهاية المطاف احتمالَ تجدُّد الاشتباكات في أي لحظة وتالياً المزيد من التدمير والتهجير، وبطريقة غير مباشرة تطبيق مشروع شطْب حق العودة ليتكرّر مشهدا نهر البارد في الشمال واليرموك في سورية وترتفع على طريقُ العودة سواتر أعلى... من دمار ودم.