يُحكى أنه وفي العصر العباسي أخذ بعض العامة من الناس التصنّع والتبذل في استخدام مفردات غريبة لكي يبرهنوا على مهاراتهم البلاغية وعمقهم اللغوي، حتى بلغ الأمر بتصنّع كلمات ليس لها معنى إلّا كما يُقال في المثل «المعنى في قلب الشاعر».
ومن تلك الوقائع المنقولة في الأثر أن أحدهم قال لصاحبه وأمام جمهور من الناس «صاحت العكاريت»
فرد عليه الآخر«حبظلم»!
فلما تعجب الأول من ردّ الثاني، قال له هلّا أفهمت الجمهور ما معنى حبظلم فردّ عليه السؤال أنت قد بدأت، فبيّن لهم ما هو المقصود من العكاريت! سكت الأول ثم فكّر وقال العكاريت تعني «الديوك»، فتبسّم الثاني وقال للجمهور حبظلم تعني «نعم»!
في كل ذلك الحوار كَسَبَ الاثنان شهرةً كبيرةً، مع علمهما بأن ما صدر عنهما ليس من اللغة بشيء وإنما اصطناع للإيحاء للجمهور ببلاغتهما.
لربما قد كسبا شهرة موقتة واستطاعا أن يخدعا الجمهور، لكن ما يلبث الوقت أن يمر قليلاً إلا انكشف أمرهما أمام فطاحل اللغة وجهابذة الأدب العربي حينها، مثل أبوالطيب المتنبي والأصمعي وأبوالعلاء المعري والبحتري وأبوفراس الحمداني وأبونواس وغيرهم.
اليوم، عندنا كثيرون من أمثال العكاريت والحبظلم، والذين صار لهم شأن في الإعلام والسياسة والاقتصاد حتى ارتقوا أعلى المناصب وتموضعوا في صدور الموائد والولائم، وإذا كان الناس في العصور القديمة يُقدّرون الأدباء الكبار الذين كشفوا زيف العكاريت والحبظلم فإن الكثير من الناس في الوقت الحالي، وبكل آسف، يحبون المتفذلكين والمتسلقين في نهج معيب لا يُمكن وصفه إلّا بالنفاق السياسي!
وفي هذا الوقت، بدأت حتى نفوس الكثيرين ممَنْ كان لديهم أمل بالإصلاح بالتنحي عن المشهد وتفضيل السكوت وعدم المبالاة، وإذا تحدث معهم أحد فإن نصيحتهم له ستكون «لا عكاريت ولا حبظلم صك حلجك أحسن لك ولا تتحلطم».