نَشَرَ معهد دراسات الأمن القومي للبحوث الإستراتيجية والمبتكرة والموجّهة نحو السياسات في جامعة تل أبيب، تقريراً على شكل دراسة إستراتيجية (INSS Israel) عنوانه «تطور استراتيجية الردع التي يتبعها حزب الله تجاه إسرائيل». وساهم في صوغ هذه الدراسة أكاديميون بينهم مَن خدم في مراكز استخباراتية وأمنية عليا.
ومن الثابت أن إسرائيل تدرس «حزب الله» وتطوره عبر السنوات على قاعدة «اعرَف عدوَّك». إلا أنه يبدو أن المسار أمامها مازال طويلاً للتعمق في حال الحزب واستخلاص مفهومٍ أكثر دقة لماهية هذا التنظيم المنظَّم وغير النظامي على مستوياتٍ عدة ولأسباب الصراع الذي ينخرط فيه وأهدافه.
وبحسب التقرير، «بدأ حزب الله كمنظمة كلاسيكية، لكنه أصبح منذ تأسيسه منظّمة متعددة الوجه ذات هويات عدة. وفي المجال العسكري، تطوّر إلى قوة حرب عصابات، ثم إلى قوة عسكرية، بفضل جهودِ تعزيزٍ مكثفة بمساعدة إيران، وهي القوة ذات القدرات العسكرية التقليدية التي تشكل التهديد الأكبر لإسرائيل اليوم».
وإذ يؤكّد التقرير أنه «على مر السنوات، تَطَوَّرَ حزب الله إلى منظّمةٍ ذات قدرات تقليدية وتحوّل رأس حربة محور المقاومة الشيعي»، إلا أن مصادر قيادية في هذا المحور تَعتبر أن محور المقاومة «لا يتألف من الشيعة فقط».
ويحاول التقرير التعمية على مركزية القضية الفلسطينية (القضية - الأم) والتي - بحسب المصادر - «تعكس اضطهاد الشعب الفلسطيني والتنكيل به في واحدٍ من أوجه الشبه بين الطرفين، وهو ما تغيّر بالنسبة إلى بيئة حزب الله، حين جاء السيد موسى الصدر إلى لبنان، ومن ثم حين قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. بالإضافة إلى ذلك، فإن اغتصاب الأرض والنكبة التي أصابت الشعب الفلسطيني أصبحت أكبر من أي طائفة، بل قضية الأمة»، وهذا ما تحاول الدراسة الإسرائيلية تَجَنُّبَ الحديث عنه.
ويخطئ التقرير الذي يعتقد كاتبوه أن «التورط في صراعاتٍ خارج مصالح حزب الله المباشرة يجعله يصرف الانتباه والموارد عن خصمه الرئيسي، أي إسرائيل».
وهذا «استنتاجٌ يفتقر إلى الصواب»، تقول المصادر القيادية التي تضيف أن وجود الحزب في سورية والعراق نَبَعَ من قرار إستراتيجي لابد منه لأسباب عدة أهمها:
- نقْل المعركة إلى الأراضي السورية بَدَل القتال على الأراضي اللبنانية، من موقع دفاع والمخاطرة بتقدُّم ما عُرف بـ«جبهة النصرة» حينها (قائدها أبو محمد الجولاني، أمير «داعش» الذي أصبح أمير «القاعدة في بلاد الشام» والذي انقلب على الاثنين، لاحقاً) وبلوغ مناطق حاضنة لـ «حزب الله» ومُعادية له.
- الحفاظ على الإمداد اللوجستي من إيران إلى لبنان وتأمين وصول الأسلحة المتطورة لفرض الردع على إسرائيل وتخزين السلاح والذخائر في حال نشوب أي حربٍ مقبلة.
- منْع سقوط الحكومة في كل من سورية والعراق، ووصول حُكْم موالٍ للغرب وإسرائيل يقطع الطريقَ البري السوري الوحيد للبنان و«يسهّل الحرب الأهلية اللبنانية بعد التطبيع مع إسرائيل ويؤدّي إلى عزل الشيعة في مناطق محددة يسهل تدميرها».
ويتناول التقرير «العناصر التي شكلت معادلةَ الردع بين حزب الله وإسرائيل، والتي تجمع بين النشاط العسكري الحَرَكي والحرب المعرفية، وتطوّرها التدريجي على مدار 40 عاماً من الصراع، وطبيعة توازن الردع الحالي؛ هذه هي الخلفية لتقييم أفضل السبل التي يمكن لإسرائيل أن تتعامل بها مع التحدي الذي تفرضه المنظمة (أي حزب الله)».
ويؤكد التقرير الإستراتيجي، أن «توازن الردع متجذّر في أصول حزب الله وتطوره ويشكل عنصراً أساسياً في إستراتيجية المنظمة الحالية. ومع ذلك، ونظراً لميل (أمينه العام حسن) نصرالله إلى المخاطرة وللواقع الإقليمي المتغيّر، فإن من شأن هذا ألّا يضمن منْع نشوب صراع واسع النطاق في المستقبل بين المنظمة والجيش الإسرائيلي، والذي يمكن أن يتطور إلى حرب متعددة الساحة».
ويلفت إلى أن «حزب الله أظهر أخيراً ثقةً متزايدةً وجرأةً أكبر في مواجهة إسرائيل. وينعكس ذلك في شكل أساسي في الحملة الحرَكية المعرفية المشترَكة التي شنّها التنظيم حول اتفاقية الغاز الطبيعي الموقّعة بين إسرائيل ولبنان، ومحاولة الهجوم على مفترق مجدو في مارس 2023، والسماح للتنظيمات الفلسطينية بإطلاق صواريخ الكاتيوشا من جنوب لبنان (2021 - 2022)، والاحتكاك المتزايد مع الجيش الإسرائيلي على طول الحدود. ويبدو أن حزب الله يرى فرصةً لتغيير ميزان الردع مع إسرائيل لمصلحته، وإقامة قواعد جديدة للعبة».
ويتدارك التقرير أنه «بعد الانسحاب الإسرائيلي، واجَهَ حزب الله التحدي المتمثل في تبرير أنشطته العسكرية المستمرة والحفاظ على وجوده المسلّح. وحوّل التنظيم تركيزَه نحو الادعاء بأن إسرائيل تواصل احتلال الأراضي اللبنانية، مستخدماً هذه الذريعة لتبرير أعماله العسكرية المستمرة والحاجة إلى ترسانة أسلحته».
إلا أن الحقيقة أن إسرائيل تحتل أراضي لبنانية منذ«حرب الأيام الستة»عام 1967 وأضافت إليها أراضي أخرى عام 2006 أثناء الحرب الثانية.
ولا يتطرّق التقرير إلى أن الاجتياحَ هو أحد أهمّ أسباب نشوء«حزب الله»وأن استمرارَ إسرائيل باحتلال الأراضي اللبنانية وعدم إنهاء ملف الترسيم البحري كاملاً يعطي السببَ الرئيسي لوجود الحزب وتَعاظُم قوته.
إضافة إلى ذلك، فإن حرمانَ لبنان من امتلاكِ قدراتٍ عسكرية متطوّرة ورادعة لمنْع آلاف الخروق الإسرائيلية لسيادته، وخنْقَ البيئة التي تحمي المقاومة يضفي شرعيةً أكبر على ضرورة استمرار قوة تملك قراراً بعيداً من الضغوط الخارجية الغربية. وتؤكد الدراسة «أن حزب الله نجح خلال العقود الثلاثة الماضية في التطور من ميليشيا إلى القوة العسكرية الوحيدة في لبنان التي تُعتبر أسلحتها أقوى بكثير من قدرات الجيش اللبناني».
ويوضح التقرير كيفية «استخدام حزب الله قدراته العسكرية في شكل إستراتيجي، وبناء خطابه، وتَصوُّره لنقاط الضعف داخل إسرائيل لتشكيل توازن الردع مع مرور الوقت، بهدف منْع صراعات واسعة النطاق مع الحفاظ على وجوده المسلّح ونفوذه في المنطقة».
ويمكن الاستنتاج من التقرير أنه رغم التحديات القائمة، فإن «حزب الله»وإسرائيل يتقاسمان مصلحة الحفاظ على الوضوح الاستراتيجي والردع المتبادل لمنْع نشوب صراع واسع النطاق. ويدركان العواقب المدمرة المحتملة لمثل هذا الصراع والضرر الذي يمكن أن يلحقه بكلا الجانبين، خصوصاً أن هذا التقرير يلاحظ أنه«ورغم أن حزب الله أصبح أكثر استعداداً لخوض مخاطر محسوبة واستفزاز إسرائيل، إلا أنه مازال يمارس ضبْط النفس، ما يشير إلى تفضيله تَجَنُّب مواجهة واسعة النطاق».
ومَن يدقق في التقرير - الدراسة، يكتشف أخطاء عدة في فهْم أسباب سياسة الحزب الداخلية وقراره بفرض الترسيم البحري عبر تهديده إسرائيل، وهي الأخطاء التي تنبع من عدم إدراك أصحاب الدراسة لمفهوم الأسباب التي دفعت لمعادلة الردع التي أظهرت إسرائيل«أوهن من خيوط العنكبوت»، إضافة إلى مغالطاتٍ كثيرة يصعب تفصيلها في عجالة.
يقول الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول «أَظْهِر القوة ولا تستخدمها».
هذا المبدأ يتبعه «حزب الله» في تَعَمُّد إظهار بعض من قدراته التكنولوجية والأنظمة الصاروخية والردعية وتدريبات«وحدات الرضوان» الخاصة، وذلك بغية إفهام إسرائيل ما ينتظرها في الحرب المقبلة.
وهذا ما يمنع الحرب ويفرض الردع الذي يبقى حاضراً ما دامت الجهوزية لدى الحزب مرتفعة وتتطور. وإلا فإن إسرائيل تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على عدوٍّ لن يعرف الراحة حتى عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، وهذا يعني انهزام إسرائيل... لذا فإن الحرب بين الطرفين، وإن أصبحت صامتة ظرفياً، فهي مفتوحة ولن تعرف الملل ولا الكلل أبداً.