منذ انتهاء مدة «اتفاق تصدير الحبوب» بين روسيا وأوكرانيا برعايةٍ تركية، تضاعفتْ الهجمات الروسية على الموانئ الأوكرانية وهُدّدت السفن التي تحمل الحبوب الأوكرانية (من قمح وذرة) عبر البحر الأسود، الذي تحوّل ساحة حرب جديدة ساخنة، أسوة بالحرب البرية وحرب المُسيَّرات.
وتؤكد روسيا ان الاتفاق لم يُحترم من الغرب بسبب استمرار العقوبات الغربية التي تقف حجر عثرة أمام تصدير الحبوب والأسمدة الروسية، وان وحدها موسكو التزمت به وسمحت لأوكرانيا بتصدير الحبوب وجني المليارات. فلماذا الإصرارُ الغربي على تصدير الحبوب الأوكرانية وعدم الالتزام بالشقّ المتعلّق بروسيا؟
جرت محاولاتٌ غربية - أوكرانية لإيجاد ممرات تصدير بديلة، مثل الموانئ الكرواتية والطرق البرية، إلا أن ارتفاع التكلفة أفضى لضرورة التصدير من البحر الأسود الذي لم يعد يُعتبر ممراً آمناً للملاحة، ما سيرفع سعر التأمين البحري وكذلك أسعار الحبوب كما تزعم أميركا.
ومن الواضح أن واشنطن لا تريد تنفيذ «اتفاقية مبادرة البحر الأسود» وأنها تبحث عن بدائل أخرى لتصدير الحبوب الأوكرانية لتبتعد عن الاتفاق الذي رعتْه الأمم المتحدة. أما روسيا فيبدو أنها اتخذت قراراً حاسماً بعدم التسامح ولن تقبل أن تُخدع مرة أخرى. فلدى الطرفين أسباب جوهرية للتمسك بتصدير الحبوب والأسمدة ما يجعل الكباش أشد عنفاً.
بالنسبة لأوكرانيا، فقد صدّرت 33 مليون طن من الحبوب (منها 9 ملايين طن من القمح) بنسبة كبيرة إلى الصين وتركيا وإسبانيا وعدد لا يستهان به من الدول الأوروبية الغنية وبنسبة ضئيلة جداً إلى الدول الأقل ثروة.
واستوردت أفريقيا 4 ملايين طن من الحبوب. وتالياً، فقد جنت أكثر من 9 إلى 10 مليارات دولار في ظروفٍ هي بأشد الحاجة فيها إلى المال للمجهود الحربي.
إضافة إلى ذلك، فإن تدفق الأموال إلى أوكرانيا وبيع حبوبها يشكلان عاملاً إستراتيجياً لاستمرار الحرب. فعدم تصدير الحبوب وقبض الأثمان سيقلّب الرأي العام، خصوصاً المزارعين وشركات النقل، ضد القيادة السياسية التي اختارت الحرب ضد روسيا مع كل ما يترتب عليها من خسائر بشرية واقتصادية.
ولهذا تحرص واشنطن على دعم كييف في المسرح الدولي لتصدير منتجاتها.
كذلك فإن قبض أموال الحبوب يشكل عاملاً مساعداً غير مباشر لأوروبا وأميركا يخفف العبء المالي عنهما في ظلّ عدم وجود «شك على بياض» لمساعدة أوكرانيا في حربٍ خاسرة لا أفق لربحها.
كما أن الدول الغربية الأوروبية الداعمة لأميركا وحربها على روسيا والمستوردة للحبوب والقمح ستصاب بالذعر إذا توقف تصدير الحبوب الأوكرانية وستضطر لشراء حبوبها من روسيا التي تملك المخزون المطلوب.
وهذه النقاط هي نفسها التي تأخذها روسيا في الحسبان. فموسكو هي أول الدول المصدّرة للحبوب والأسمدة وهي تحتاج لطمأنة مزارعيها إلى أن الإنتاج المحلي سيُصدّر للخارج وأن الدولة تتحمل مسؤوليتها تجاه مواطنيها من دون الحاجة لسحب أرصدة احتياطية من المصرف المركزي الروسي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الرئيس فلاديمير بوتين لا يريد أن يبدو مخدوعاً، يدعم المجهود الحربي الأوكراني ضد روسيا التي لا تستطيع بيع صادراتها وتقبل الغشّ الغربي.
وقد تقبّل بوتين مبدأ المساهمة في دعم الاقتصاد الأوكراني والسماح لكييف بتصدير الحبوب وقبض الأثمان مقابل السماح للمصرف الروسي المركزي باستخدام نظام السويفت وقبض عائدات الحبوب والأسمدة من الدول المستوردة.
إلا أن الغرب رَفَضَ احترام الجزء المتعلق به تجاه روسيا، وأقرت الأمم المتحدة بأنها تحاول جهدها لتنفيذ الاتفاق. لكن يبدو أن لا أمل في تنفيذه لأن أميركا ترغب في رؤية بوتين ينوء تحت ضغط المزارعين المحليين ويتمنى أن يُحْدِث ذلك تململاً داخلياً لينقلب الروس على رئيسهم بعدما فشلت محاولات الغرب في تحقيق هذا الهدف بالذات.
وتالياً فإن شمّاعة «الأمن العذائي» لم تَعُدْ مُقْنِعة للشعوب، خصوصاً بعدما وعد بوتين الدول الأفريقية الفقيرة بتصدير الحبوب لها مجاناً وأن الذين يحتاجون للحبوب لشرائها ستصلهم بأسعار معفيّة من أثمان النقل.
وتنتج روسيا 20 في المئة من حاجة العالم للحبوب، بينما تنتج أوكرانيا 5 في المئة فقط.
ويبدو أن إنتاج روسيا قد ارتفع هذا العام بنسبة أكثر من 23 في المئة. وتتحضّر موسكو لتصدير 55 مليون طن من الحبوب، خصوصاً أن هناك مناطق أوكرانية غربية وجنوبية منتجة للحبوب ضمّتها منذ حربها على كييف. وتالياً فإن فرنسا أو روسيا تستطيعان سد الثغر دون إحداث خلل في الأسواق العالمية وأسعار الحبوب.
من هنا، فإن الصراخ الأوكراني بأن روسيا دمّرت 40 ألف طن من الحبوب الأوكرانية أثناء القصف الأخير على موانئ أوديسا وأخرى على نهر الدانوب ما تسبب بضربة للأمن الغذائي، هو جزء من الحملة الإعلامية التي تهدف لشيْطنة روسيا وفرض اتفاق لتصدير الحبوب من طرف واحد وإقصاء موسكو عن هذا الاتفاق.
وهذا ما لن يقبل به الرئيس الروسي بعد اليوم رغم الضغوط التي يتعرض لها من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أكد أنه «لا يمكن عدم الالتزام بالشق المتعلق بروسيا في اتفاق تصدير الحبوب».
إلا أن أردوغان يواجه تحدياً - وهو المطلوب منه أميركياً الضغط على بوتين - لأنه لا يستطيع فرض اتفاق لا ترغب أميركا بالالتزام بالبنود المتعلقة بروسيا فيه.
وتالياً من الظاهر أن أميركا تحاول الدفع الإعلامي واتهام روسيا بتجويع العالم على السماح لموسكو بالاستفادة من بيع حبوبها وأسمدتها.
وتتمنى واشنطن أن ينجح الرئيس التركي بحشر حليفه الروسي في الزاوية لسيطرة أنقرة على مداخل البحر الأسود وحاجة بوتين لحليفه التركي العضو في «الناتو» والذي يُعتبر شريكاً اقتصادياً مهماً لموسكو.
وتالياً، من المحتمل أن يقدّم بوتين عرضاً لأردوغان بتجميع الحبوب الروسية والأوكرانية في تركيا كنقطة تجمُّع وانطلاق وتصديرها للعالم. وهذا المقترح كفيل بحل الأزمة إذا وافقت عليه أميركا، إذ أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن «المشكلة لا تكمن في الغذاء المتوافر بل في الوصول إليه».
إذاً فإن الاستغلال السياسي والتجاري والإعلامي وبث القلاقل يساعد على رفع سعر الحبوب ونشر الذعر، خصوصاً أن هناك دولاً مثل رومانيا وبلغاريا وفرنسا تصدّر القمح والحبوب الفائضة للعالم.
من هنا، ثمة مَن يرى أن هدف أميركا بعزل روسيا سيُكتب له الفشل من جديد لأن الدول الفقيرة تتقرّب أكثر من موسكو بينما الغرب هو مبتعد أصلاً، ويسير على خطى السياسة الأميركية المدمّرة لاقتصاده.
أما الصين وتركيا، فتستطيعان تسلُّم الحبوب الروسية بدل الأوكرانية إذا اضطرتا لذلك. وتالياً فإن الكرملين لن يجد أي مصلحة بالعودة إلى اتفاقٍ من طرف واحد إذا لم تتم تلبية شروطه لأنه لن يلدغ من الجحر مرتين.