مهما تَعاظَمَتْ قوةُ الولايات المتحدة، فهي لا تملك القدرةَ العسكرية ولا الاقتصادية لإعلان وخوض الحرب على الصين بما لها من إمكانات مالية وتجارية وصناعية ضخمة وكذلك جيشٍ جرار وقدرات نووية وعلاقات إستراتيجية مع روسيا ودول آسيا التي لن تتخلى عنها.
وبعد انقسام العالم بين مؤيِّد لحربِ الغرب على روسيا وقسم أكبر مُعارِض لها، فإن شهيةَ غالبية دول الغرب مفقودة للانجرار وراء أميركا في حربٍ مستقبلية مع الصين، كما أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
إلا ان طبول الحرب الأميركية تُقرع بشدة وعلى نحو تواصل في وجه بكين بالتزامن مع الجهود الديبلوماسية الأميركية - الصينية للإبقاء على قنوات التواصل مستمرة. فما إستراتيجية واشنطن العملية والواقعية تجاه الصين؟
تتربع الولايات المتحدة على عرش أقوى الدول بسبب قوتها العسكرية وأكثر من 750 قاعدة عسكرية موجودة حول العالم وأكثر من 150 قنبلة نووية منتشرة في أوروبا تؤمّن لها الضربة الأولى القريبة ضد أعدائها في قارات بعيدة عن القارة الأميركية.
وقد استطاع الرئيس جو بايدن وإدارته إعادة تنظيم «الجيش الأوروبي» تحت سيطرته من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو) في سياق الحرب في أوكرانيا.
وبعد الخبرة التي قدّمتْها حرب أوكرانيا للأطراف كافة، اتضح بشكل قاطع، أن الجيش الروسي - مهما طَوَّرَ قدراته وأساليبه القتالية ومعداته العسكرية، لن يكون أبداً في مستوى جيش «الناتو» الأميركي - الأوروبي الموجود في القارة الأوروبية، إذا لم تَستخدم موسكو الأسلحة النووية في أي حربٍ مستقبلية مستبعَدة.
وقد استطاعتْ واشنطن إعادةَ الحياة للحلف بعد «موتٍ سريري» (كما وَصَفَهُ ماكرون قبل أربعة أعوام)، ودفْع أكثر الدول الاوروبية للوقوف خلفها. وزادتْ من أعضاء الحلف إلى 31 عضواً وقريباً 32 بعد انضمامِ السويد، وهذا طبعاً مرتبط بتسليم تركيا مقاتلات «إف - 16» الحديثة وقِطع الغيار لأسطولها الجوي الذي سيعود للخدمة بقوة، إذا التزم بايدن بوعوده بتسليم أنقرة ما تريده لسلاحها الجوي مقابل دعْم ترشح السويد.
اما مسألة انضمام أوكرانيا إلى «الناتو»، فهي حركة رمزية لا تعود لأميركا بأي نفع. بل ان بقاء أوكرانيا أرضاً متنازَعاً عليها تعيش حرباً لسنوات طويلة أو حالة من عدم الاستقرار يصبّ في مصلحة واشنطن لناحية استنزاف روسيا وأوروبا وإضعاف اقتصاداتها لتبقى أميركا هي الأقوى في القارتين، تتطلّع إليها الدول الأوروبية كشريك لا يُستغنى عنه وشرّ لا بد منه.
وتالياً، فإن استمرار الحرب على الجبهة الأوروبية يساعد أميركا للتطلع نحو الخطوة التالية، وهي مواجهة المُنافِس الصيني الأكبر والأخطر على زعامتها. فالصين، وليس أميركا، أكبر شريك لدول آسيا والمحرّكُ الأساسي للبنك الآسيوي الذي ينافس البنك الدولي.
والصين بدأت بتوسيع «منظمة شنغهاي للتعاون» التي تضم أيضاً، البرازيل وروسيا والهند وأفريقيا الجنوبية وإيران، ولديها لائحة انتظار طويلة لدول راغِبة بالانضمام إليها ولاقتصادٍ بعيد عن هيمنة الدولار والأسواق الغربية.
وتملك بكين تكنولوجيا في الاتصالات والنقل متقدمة جداً، وقوةً بشرية عاملة ليست متوافرة في أي دولة أخرى في العالم.
ولا حاجة لذكر حجم التبادل التجاري الآسيوي - الأفريقي الذي يشمل أكثر من 40 في المئة من سكان العالم في تحالفٍ لا دخل ولا مكانة فيه للهيمنة الأميركية المباشرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الصين تملك الأسلحة المتطورة التي تمكّنها من الانتصار في أي حرب إذا شُنَّت عليها، أو على الأقل توجيه ضربات قاسية لاعدائها إذا هوجمت، بمَن فيها أميركا.
في المقابل، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تشكّل خطراً حقيقياً على الصين ما دامت غنية ومتماسكة وتملك فائض قوة اقتصادية وحلفاء أقوياء. وتالياً فإن أميركا تحتاج لإشغال الصين على محاور متعددة: خارجي، داخلي واقتصادي.
في الخارج، فإن قضية تايوان وحساسيتها للصين هي الورقة التي تستخدمها أميركا لإبقاء التنازع على قيد الحياة. فهي لا تعترف باستقلال الجزيرة ولكنها تمدّها بالسلاح والجنود وتعلن أنها ستدافع عنها، وفي الوقت عينْه تصرّح بأنها جزء من الصين الواحدة.
أما على المحور الداخلي، فأميركا لها خبرة طويلة في تغيير الأنظمة. إلا أن كل الأدوات التي تملكها حالياً لا تبدو ناجعةً ضد الصين المتماسكة.
وتالياً فإن الخطة الأميركية الوحيدة المتبقية لها هي إرهاق الاقتصاد الصيني بسباق تَسَلُّحٍ مماثل لِما حصل مع الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية والذي أدى إلى إفقار موسكو ودفْعها للتخلي عن دول عدة كانت جزءاً منها.
إلا أن الصين لا تملك دولاً تريد التخلّي عنها، مثلما فعلتْ موسكو، وهي لم تستعمر قارات كما فعل الغرب.
بل على العكس، هي متمسّكة بتايوان التي تَعتبرها الأمم المتحدة وأكثر من 100 دولة أخرى جزءاً لا يتجزأ من الصين، بما فيها الولايات المتحدة التي تَستخدم المعايير المزدوجة في التعامل فقط لاغضاب بكين.
وإذا كان حَشْدُ الدولِ المُوالِية لأميركا للاستعداد لحربٍ مع الصين غير وارد، فإن رَفْعَ حلف «الناتو» صوتَه لجهة حاجته إلى التوسع في اليابان والفيلبين لدعم تواجده في بحر الصين، يدلّ على أنه أداةَ حربٍ (وليس دفاع) أميركية تحرّكها كيفما تشاء حتى بفقدان العامل الأوروبي غير الراغب في إشهار العدوانية تجاه أحد أهمّ الشركاء الاقتصاديين.
إذاً، جلّ ما تريده أميركا في الوقت الراهن هو التأكد من أن الصين لن تدعم روسيا في أوكرانيا، لأن ذلك من شأنه إفشال مخططها وإعطاء الغلبة الواضحة للكرملين حتى ولو اجتمع حلف «الناتو» الذي لم يعد يملك الذخيرة اللازمة ولا القدرة للاستمرار في المجهود الحربي، إلى ما لا نهاية، كما ترغب أميركا في ذلك.
أما الخطوة التالية، فهي دفْع الصين إلى سباق تسلُّح والتجهيز للحرب، وكأنها ستقع غداً لتزيد إنفاقَها الدفاعي، وهذا ما حصل فعلاً. إذ ارتفعت النفقات التسليحية الصينية إلى 7.2 في المئة لتصل إلى 225 مليار دولار (1.55 تريليون يوان) لعام 2023.
إلا ان هذا المبلغ، على الرغم من أنه يجعلها ثاني دولة بعد الولايات المتحدة في الميزانية العسكرية المرتفعة، فهو ما زال مقبولاً وتستطيع الدولة الصينية استيعابه بسبب الاقتصاد القوي ومتانة مسارِها المالي.
إذاً، لا يوجد أمل واحد ولا احتمال ضئيل لشنّ أميركا حرباً على الصين في السنوات الخمس المقبلة، رغم تحضير البنتاغون لخطط الغزو لثاني أكبر دولة في العالم من الناحية السكانية والاقتصادية.
فهذا هو عمل الجيش الذي يضع الخطط من دون أن تكون بالضرورة فعالة وصالحة وذات جدوى تنفيذية واقعية.
وهذا يأخذنا إلى استنتاجٍ واحد هو أن الصراخ الأميركي يعلو بشدة فقط لإبقاء وتيرة التهديد مرتفعة ولتأكيد أن واشنطن هي التي تدير مصير العالم والتي تستطيع شنّ الحروب دون غيرها من الدول، وأنه لا يحق لأي بلد مثل روسيا أو غيرها ان تفعل ما تفعله واشنطن (والغرب بشكل عام) وان مَن يساعد روسيا يضع نفسه في خانة العدو الذي يتحدّى سلطة الولايات المتحدة وهيمنتها على العالم.
تالياً، إنها سياسة تهويل وصراخ وإلهاء واستنزاف. إلا إنه لا بد للصين - التي تبعد 11000 كيلومتر عن الولايات المُتحدة - أن تأخذ التهديد الأميركي على محمل الجد وتتحضّر للأسوأ إذا خرجت واشنطن عن «سياسة العقلنة والمنطق»، وقرّرت دَفْعَ العالم نحو عهدٍ تشوبه الحروب المدمّرة في قارات عدة.