لم يكن أكثر تعبيراً عن حالِ انعدامِ الوزن التي يعيشها لبنان من ارتسام «مثلثٍ حدودي» مخيف في الساعات الماضية، عَكَسَ قابليةَ الواقع المحلي للاشتعال، سواء بـ «فتيلٍ» داخلي أو إقليمي، فيما الانهيارُ المالي يواصل التشظي وإن مع «تبريدٍ» ظاهريّ لسطح الحريق الكبير الذي يستعر منذ 40 شهراً.
فمن الأزمةِ الرئاسيةِ التي تتقاطعُ كل المؤشراتِ عند أنها باتت متفلّتةً من كل حدودٍ زمنيةٍ وأن أقرب مواعيد محتملة لـ «معجزةِ حلٍّ» هو الخريف، مروراً بالنزاع الحدودي المزمن فوق قمة الـ 3088 متراً بين قضاءيْ بشري والضنية (المنية) الذي استيقظ دموياً يوم السبت، وصولاً إلى الحدود مع اسرائيل والصراع حول مزارع شبعا المحتلة والذي يلوح جمره من تحت خيمتيْن تبادلت تل أبيب و«حزب الله» التهديدات حولهما... 3 عناوين تشابكت في الساعات الماضية عشية انتهاء عطلة الأضحى المبارك التي لا يُعوَّل على انتهائها لإطلاق أي دينامية جديدة لمحاولة إحداث خرق في الانسداد الكامل الذي يطبع الملف الرئاسي منذ 8 أشهر هو عمر الفراغ في الكرسي الأول الذي بدأ في 1 نوفمبر الماضي.
ومع «الرياح المُعاكِسة» لمَهمة الموفد الفرنسي جان - ايف لودريان في ما خص الأزمة الرئاسية والتي هبّتْ من كرة النار والاضطرابات التي تضرب فرنسا مُنْذِرةً بفرْملة عملِ كل «خلايا الإليزيه» بانتظار «مرور العاصفة»، يشدّ الجميعُ الأحزمةَ في الداخل تَحَسُّباً لارتداداتِ المزيدِ من استنزافِ الوقت لبنانياً في ما انطلق العدّ العكسي لـ «دومينو» فراغاتٍ في مؤسساتٍ حيويةٍ بحُكْم انتهاء الولاية والإحالة على التقاعُد:
- بدءاً من حاكمية مصرف لبنان (نهاية يوليو الجاري) والتي ستؤول إلى النائب الأول وسيم منصوري (شيعي) الذي سيقبل تسلُّم هذا الموقع من رياض سلامة بموجب ما يشبه «أمر مهمة» للثنائي الشيعي ذات أبعاد تتصل بعملية «لي الأذرع» حيال الملف الرئاسي - والذي تقاطعت فيه الأحزاب المسيحية من مختلف المشارب على رفْض ترشيح سليمان فرنجية - عبر رمي إشكاليةٍ حساسة تتعلق بانتقال مواقع مسيحية إلى أيدي غير مسيحيين بالإنابة.
- وليس انتهاءً بإحالة قائد الجيش العماد جوزف عون على التقاعد في يناير المقبل، والتعقيدات المتّصلة بمَن يحمل راية القيادة ما لم يكن تم انتخاب رئيس وتالياً تعيين خلَف لرأس المؤسسة العسكرية، ولا سيما في ظل الشواغر الحالية في المجلس العسكري في قيادة الجيش (تشمل رئيس الأركان والمفتش العام والمدير العام للإدارة) التي تجعل «انتقال السلطة» إلى رئيس الأركان كما ينص القانون متعذّرة، وسط متاريس سياسية مرتفعة بين مكونات حكومة تصريف الأعمال (يقاطع جلساتها وزراء التيار الوطني الحر) تحول دون ملء هذه الشواغر وتوفير «هبوط آمن» لِما بعد العماد عون.
«القرنة السوداء»
ولا شك في أن لا مصلحة لبنانية بأن يتمدّد الشلل أو الصراع المعلَن إلى آخِر «صمام أمان» في الوضع المحلي يشكله الجيش الذي وُضع أول من أمس أمام اختبارٍ بالغِ الدقة مع التوتّر العالي الذي ساد بين منطقتيْ بشري والضنية (بقاعصفرين) على خلفيةِ تَجَدُّد الخلاف الحدودي (عمره عقود) حول «القرنة السوداء» (أعلى قمة في لبنان والشرق الأوسط والنطاق العقاري – الإداري الذي تقع ضمنه)، بعد مقتل شخصيْن من بشري في واقعةٍ لم تُحسم كل ملابساتها بعد، رغم ما استدعتْه من استنفارٍ رسمي وروحي على أعلى المستويات لاحتواء ما برزت الخشية من أن يتحول جاذبة صواعق سياسية وطائفية، أو أن يكون «لغماً» يُراد أن ينفجر بمجمل الواقع اللبناني ويدشّن مرحلةَ تسخينٍ للأرض يُستدرج الجميع على وهجها إلى طاولة حوار حول الملف الرئاسي «على الحامي» من خاصرةِ توتير مسيحي – سني جرى بأي حال قطْع الطريق أمامه من مختلف الأفرقاء.
وبدا من «التأهب» السياسي أمس أن الجميع استشعروا مخاطر فتْح ما قد يكون «صندوقة باندورا» بحال تم العبث بمسرح جريمة القرنة السوداء حيث قُتل بدايةً هيثم طوق ثم مالك طوق في ظروف لم تُحسم بالكامل بعد، وترْكها لـ «الرؤوس الحامية».
وقد سُجل تلقي رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع (مساء السبت) اتصالات عدة أبرزها من مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان، والنواب اشرف ريفي، فؤاد مخزومي وعبدالعزيز الصم، حيث أبدى جميع المتصلين استنكارهم الشديد وأسفهم لسقوط الضحايا من بشري وشددوا على ضرورة «ان تجرى التحقيقات بسرعة لكشف المجرمين وسوقهم الى العدالة في أقرب وقت».
من جهة ثانية، تلقت النائبة ستريدا جعجع اتصالاً من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أكد خلاله أنه سيتابع شخصياً مسار التحقيقات للتوصل إلى توقيف المجرمين وسوقهم إلى العدالة.
وكان المفتي دريان أجرى اتصالاً بالنائب فيصل كرامي (النائب الفائز عن دائرة طرابلس – المنية – الضنية) تناول خلاله الحادثة التي شهدتها القرنة السوداء، ودعاه إلى «المساهمة في تهدئة الأمور والإصرار على استخدام لغة العقل وتحكيم الوجدان الوطني في هذه المسألة خصوصاً ان هناك طابوراً خامساً يسعى إلى تسعير الفتنة والاصطياد بالماء العكر». وقد أعرب كرامي عن «شكره لمفتي الجمهورية على حكمته ومطالبته بتحقيق العدالة التي نسعى إليها جميعاً».
وإذ برز أيضاً اتصال الرئيس نبيه بري بكرامي داعياً إلى «توخّي الحكمة في التعامل مع الحادثة الأليمة» ومتوجهاً إلى «أهالي بقاعصفرين والضنية لعدم الانجرار وراء الأحكام المسبقة والإشاعات بانتظار جلاء الحقيقة الكاملة»، حرص البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على تهدئة النفوس معلناً «آلمتنا للغاية حادثة قرنة السوداء التي راح ضحيتها اثنان من بلدة بشري العزيزة من أسرة آل طوق الكرام، ونعول على الجيش في فرض الأمن لصالح الجميع، وعلى أهالي بشري في ضبط النفس، ووضع الخلاف المزمن في منطقة قرنة السوداء في عهدة القضاء».
توقيفات
في موازاة ذلك، وفيما أوقف ما لا يقل عن 11 شخصاً من الضنية للتحقيق معهم (و5 من بشري تَردّد أنه تمت تخليتهم لاحقاً)، لم يكن ممكناً الجزم بملابسات مقتل هيثم طوق، برصاص قنّاص أو باستهداف عن قرب كما قال المدير الطبي لمستشفى بشري الحكومي الدكتور ابراهيم مقدسي مؤكداً أن «أن إطلاق النار حصل عن مسافة قريبة جداً لا تتعدّى الـ15 أو 20 متراً».
كما لفّ عدم اليقين ظروف مقتل مالك طوق، وهل سقط مع هيثم في الجريمة نفسها بينما كان شبان من بشري في منطقة القرنة السوداء ولكن لم يتم العثور على جثته الا بعد ساعات، أم أن اشتباكاً حصل بين قوّة من فوج المغاوير في الجيش اللبناني توجّهت إلى مكان الحادث الأصلي وبين عدد من الشباب كانوا قصدوا مسرح الجريمة ولم يتجاوبوا مع طلب الانسحاب ما أدى الى مصرع مالك طوق وجرح آخريْن بينهما منصور سكر الذي ذكرت تقارير إعلامية أنه عسكري.
وكانت قيادة الجيش ـ مديرية التوجيه أصدرت ليل السبت بياناً جاء فيه: «بتاريخ 1 / 7 / 2023، تعرض أحد المواطنين لإطلاق نار في منطقة القرنة السوداء ما أدى إلى مقتله، كما قُتل لاحقاً مواطن آخر في المنطقة عينها. ونفذ الجيش انتشاراً في المنطقة ويعمل على متابعة الموضوع لكشف ملابساته، كما أوقف عددا من الأشخاص وضبط أسلحة حربية وكمية من الذخائر.
ولما كانت قيادة الجيش حذرت في بيان سابق بتاريخ 2023/6/12 المواطنين من الاقتراب من منطقة التدريب العسكرية في القرنة السوداء، تعيد التشديد على عدم اقتراب المواطنين كافة من هذه المنطقة تحت طائلة المسؤولية وحفاظاً على سلامتهم ومَنْعاً لوقوع حوادث مماثلة».
مزارع شبعا
ولم يحجب هذا الملف على خطورته الأنظارَ عما اعتبرتْه إسرائيل موقعاً عسكرياً مكوّناً من عدة خيَم أقامه «حزب الله» (قبل نحو شهرين) «على الجانب الإسرائيلي من الحدود في مزارع شبعا (المحتلة)» أو هاردوف وفق التسمية الإسرائيلية.
وبعدما كانت تل أبيب قابلتْ هذا التطور بتوجيهها شكوى إلى الأمم المتحدة، محذّرة من أنها «ستستخدم القوة العسكرية لإخلاء الموقع»، بالتوازي مع توسيطها قنوات ديبلوماسية من أجل الضغط على لبنان لإخلاء الخيَم، رَفَع «حزب الله» نبرته بوجه اسرائيل محذراً إياها بالردّ في حال أي استهداف للخيَم، وصولاً لإعلان رئيس كتله نوابه محمد رعد «ان الإسرائيلي ومنذ شهر قايم قيامتو على الخيمتين الموجودتين على الحدود، ويَعتبر أنهما وُضعتا في نقطة متقدمة على الخط الأزرق وفق تفسيره، ويَطلب أن تزال هاتان الخيمتان، وأنه يفضّل أن تقوم المقاومة بذلك، لأن العدو الإسرائيلي إذا أراد ذلك فستقع الحرب وهو لا يريدها».
وأضاف متوجّهاً إلى «العدو»: «إذا ما بدك حرب سكوت وتضبضب، أمَّا أن تفرض على المقاومة أن تنزع ما هو حق للبنان، وما تعتبر أنه ضمن أرضه فلا أنت ولا غيرك بعد قادر يُفرض».
وغداة تهديد رعد، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي عضو المجلس الوزاري المصغر، يسرائيل كاتس، تعليقاً على رفْض «حزب الله» إزالة الخيَم، أن حكومته غير معنية باندلاع حرب.
وقال «علينا أن ندرك أن عبور عناصر (حزب الله) الخط الحدودي في منطقة مزارع شبعا يمثل مشكلة كبيرة ويمكن أن يفضي إلى صراع، لكن ليست لدى إسرائيل رغبة في الحرب».