مفيد أن تحيي الأمم المتحدة ذكرى النكبة الفلسطينية، وهي ذكرى أليمة مرّ عليها 75 عاماً. أعلنت الأمم المنظمة الدولية أنه «للمرّة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة، تحيي المناسبة وفقاً للتفويض الممنوح من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة».
وقالت اللجنة المختصة بحقوق الشعب الفلسطيني «غير القابلة للتصرّف»، إن «النزوح الجماعي للفلسطينيين المعروف باسم النكبة شهد تحول أكثر من نصف السكان الفلسطينيين إلى لاجئين»، مشيرة إلى أن النكبة تذكرنا بـ«أكثر من 5 ملايين و900 ألف لاجئ من فلسطين مسجلين لدى الأونروا (وكالة الغوث) مازالوا يعيشون وسط نزاع وعنف واحتلال ويتطلعون إلى حل عادل ودائم لمحنتهم».
ما يمكن أن يكون مفيداً أكثر استيعاب الجانب العربي أن النكبة لم تتوقف عند العام 1948، بل تلتها نكبات أخرى وصولاً إلى ما آل إليه الوضع العربي اليوم.
الوضع العربي اليوم هو النكبة الحقيقيّة. هناك من يعطي دروساً في الوطنيّة بعدما صار نصف شعبه مهجراً. بكلام أوضح، يلقي ممثلو النظام السوري دروساً في الوطنيّة في اجتماعات وزراء الخارجيّة العرب المنعقدة في جدّة، تحضيراً للقمة العربيّة، متجاهلين حقوق السوريين وحقوق الشعب السوري.
يعطي الخطاب الذي يعتمده النظام السوري فكرة عن رفض الاعتراف بالواقع والتعاطي معه بدل الهرب منه.
يعني الاعتراف بالواقع أنّ الكارثة تجاوزت فلسطين ونكبة الفلسطينيين. كارثة العراق أكبر من كارثة فلسطين ونكبتها، كذلك كارثة سورية التي تفتت في ظلّ نظام أقلّوي أخذ على عاتقه المتاجرة يومياً بشعارات «المقاومة» و«الممانعة»... فانتهى في الحضن الإيراني!
تعطي بعض الكلمات التي القيت في افتتاح مؤتمر وزراء الخارجيّة العرب في جدّة فكرة عن قسم لا بأس به من الأنظمة العربيّة مازال يعيش في الماضي.
كانت كلمة وزير الخارجية الجزائري الجديد - القديم أحمد عطّاف مثلاً صارخاً على ذلك.
معروف أن عطّاف ديبلوماسي محترف وناجح، لكنه نسي بتشديده على قضيّة فلسطين وعلى ما حققته القمة العربيّة التي انعقدت في نوفمبر الماضي في الجزائر أن للجزائريين حقوقهم أيضا.
نسي أنّ على النظام العسكري، ذي الواجهة المدنيّة، الذي آوى في مرحلة معيّنة جماعة «أبو نضال» الإرهابية في الجزائر التصالح مع شعبه أوّلاً ومع محيطه المباشر قبل الكلام عمّا فعله لفلسطين والفلسطينيين، وهو في الواقع لم يفعل شيئاً لها.
يؤكّد ذلك سعيه إلى تسخيف القضيّة الفلسطينيّة عندما يضعها في مستوى ما يسمّى قضيّة الصحراء الغربية، وهي صحراء مغربيّة، كما أنّها قضيّة مفتعلة من ألفها إلى يائها لا أكثر.
هل من فارق بين ما فعله النظام الجزائري بالصحراويين، المحتجزين في مخيمات تندوف، عمّا فعلته إسرائيل بالفلسطينيين المقيمين في مخيمات داخل فلسطين وخارجها؟
العرب فريقان. فريق استوعب معنى النكبة وفريق يرفض. من استوعب معنى النكبة، يعرف جيّداً أن العالم تغيّر وأنّ المنطقة كلّها، من المحيط إلى الخليج، تغيّرت مع هذا العالم الذي تغيّر.
من لم يستوعب معنى النكبة هو من رفض قرار التقسيم في العام 1947، ورفض سماع نصيحة الحبيب بورقيبة من خلال خطاب اريحا، في العام 1966.
من لم يستوعب معنى النكبة جرّ مصر وسورية والأردن إلى حرب 1967 التي كشفت كم كان جمال عبدالناصر مجرّد ضابط ريفي لا يعرف شيئاً عن موازين القوى مع إسرائيل ولا يعرف شيئاً عن العالم وأهمّية تفادي معاداة الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانيّة.
كان عبدالناصر، الذي ارتمى في حضن الاتحاد السوفياتي، يجهل أنّه لولا أميركا لما انسحبت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل من قناة السويس في العام 1956.
كان الرئيس دوايت ايزنهاور من أجبر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب بعد اكتشافه أن الدول الثلاث شنت حرباً على مصر من خلف ظهر أميركا!
من يعرف معنى النكبة وما تلا النكبة من نكبات حقيقة، يستوعب أنّ لا أولوية في المنطقة لقضيّة فلسطين.
في ضوء الحرب الأميركيّة على العراق، وتسليمه على صحن من فضّة إلى «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران، حدث زلزال إقليمي. مازالت آثار هذا الزلزال تتفاعل إلى يومنا هذا.
ولدت دول فاشلة عدّة في ضوء التغيّرات الكبيرة التي تحصل يومياً. ليس تحوّل السودان إلى دولة فاشلة سوى دليل على ذلك. جاء دور السودان بعدما صار مطروحاً مصير العراق نفسه ومستقبله ودوره في المنطقة وموقعه فيها.
نكبة العراق أهمّ من نكبة فلسطين. كذلك نكبة سورية ونكبة لبنان ونكبة اليمن ونكبة ليبيا وغداً نكبة تونس، ربّما.
بات هناك صفّ طويل من الدول الفاشلة في حين الدول الناجحة هي الدول العربيّة التي اهتمت ببناء نفسها والاهتمام برفاه شعوبها... مثل المغرب ومعظم دول الخليج العربي.
ما حصل في السودان كشف حجم العجز العربي تجاه وقف انهيار كامل لبلد مهمّ. يهدّد تفتت السودان أمن البحر الأحمر، كما يهدّد أمن مصر.
يبدو ملحّاً التفكير في أن النكبة التي وقعت في العام 1948 مستمرّة إلى يومنا هذا. ليس ما يوقف النكبة سوى معرفة موازين القوى في هذا العالم والابتعاد عن الشعارات.
نعم، هناك حكومة يمينيّة متطرّفة في إسرائيل. السؤال كيف التعاطي مع مثل هذه الحكومة للحدّ من الأضرار التي يمكن أن تتسبب بها؟
الأكيد أن ما فعلته حركة «الجهاد الإسلامي» انطلاقاً من غزّة ليس حلاً بمقدار ما أنّه يندرج في سياق النكبة ورفض قسم من الفلسطينيين التعلّم من دروسها الكثيرة!
متى تتوقف النكبة؟ تتوقف لدى الإدراك أنّ النكبة الحقيقية في التعامي عن حقيقة ما يدور في المنطقة والعالم.
لا شكّ الأمم المتحدة مشكورة لتذكيرها العالم بمرور 75 عاماً على مأساة الشعب الفلسطيني. لكنّ ذلك لن يؤدي إلى نتيجة ما دام لايزال بين العرب من يرفض الاعتراف بأنّ نكبات أخرى ولدت من رحم النكبة الفلسطينيّة!