تكمن خطورة رجب طيب أردوغان الذي تعرّض لنكسة، وليس لهزيمة بعد، في الانتخابات الرئاسيّة التركيّة في أنّه يسعى إلى تغيير بلده نهائياً عبر القضاء على تركة مصطفى كمال أتاتورك.
يريد القضاء على تركيا العلمانية.
في العام 2010.
تبيّن أنّه من الذين يسعون إلى استغلال الورقة الفلسطينية إلى أبعد حدود خدمة لسياسات داخليّة تركيّة ذات طابع شعبوي.
يقاوم الأتراك حالياً محاولة أخيرة يقوم بها أردوغان، المؤمن بفكر الإخوان المسلمين وثقافتهم، من أجل إزالة كلّ ما له علاقة بأتاتورك على نحو تدريجي.
يظنّ الرئيس التركي أنّه سيكون قادراً على ذلك في حال فوزه بولاية رئاسية جديدة ينهي فيها حياته السياسيّة بالقضاء على تركة أتاتورك من جهة وقيام تركيا الأردوغانيّة من جهة أخرى.
تظهر نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة أن الشعب التركي، في قسم كبير منه، يفهم جيداً ما على المحكّ.
ما على المحكّ مستقبل تركيا ومجتمعها وموقعها في المنطقة وطبيعة علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة.
هذا ما يفسّر هذا العدد الكبير من الأصوات التي نالها كمال قليجدار أوغلو، مرشّح المعارضة التركيّة الذي سينافس أردوغان في 28 مايو الجاري على موقع الرئاسة.
تعثر أردوغان في كلّ ما فعله في السنوات العشرين الأخيرة. جاءت كارثة الزلزال الذي وقع في السادس من فبراير الماضي لتكشف حجم الفساد الذي تعاني منه إدارته.
على الرغم من ذلك كلّه، استطاع الحلول في الطليعة في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة أمام قليجدار أوغلو ومرشح ثالث، يرمز إلى الروح القوميّة التركيّة، هو سنان أوغان.
حصل أوغان على نسبة 5.2 في المئة من الأصوات.
سيكون بيضة القبان في الدورة الثانية التي لن يشارك فيها.
بغض النظر عن الفشل الاقتصادي، الذي يعبر عنه سقوط قيمة العملة، كان الفشل الأهمّ لأردوغان سياسياً.
فشل في سورية بعدما تحوّل إلى حليف للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استطاع اخضاعه.
فشل خصوصاً في بقاء تركيا لاعباً مهمّاً في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو).
اشترى منظومة «إس - 400» المضادة للطائرات من روسيا من دون مبرّر.
أراد فقط استرضاء بوتين.
قسم كبير من الشعب التركي يصدّق أردوغان، لا تزال عودته إلى الرئاسة أمراً وارداً، لكنّ ما كشفته نتائج الانتخابات الرئاسية، بأرقامها، أنّه سيترتب على أردوغان التخلي عن الكثير من طموحاته، بما في ذلك وهم إعادة الحياة إلى الدولة العثمانيّة من جهة والقضاء على إرث أتاتورك من جهة أخرى.
في النهاية، لم يحقّق الرئيس التركي أيّ نجاح اقتصادي، في مرحلة معيّنة، لولا مؤسسات الدولة الحديثة التي وضع أسسها مصطفى كمال أتاتورك الذي استطاع الحد من الخسائر التي ترتبت على سقوط الدول العثمانية في عشرينيات القرن الماضي.
يظلّ السؤال، هل لدى أردوغان القدرة على التعاطي مع الواقع، بما في ذلك مع وجود أقلّيات ذات وزن كبير في تركيا، مثل العلويين والأكراد؟
ثمّة مثل يعطي فكرة عن عجزه عن القيام بنقلة نوعيّة في هذا الاتجاه. يعطي ما زودني به الزميل والصديق كامران قره داغي، فكرة عن هذا العجز.
أرسل لي كامران، الذي عملت معه في صحيفة «الحياة»، والذي كان في مرحلة معيّنة مديراً لمكتب الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني رسالة جاء فيها: «في مناسبة انتخابات تركيا تذكرت لقاء، اعتقد كان في 2008، بين مام جلال (الرئيس العراقي وقتذاك جلال طالباني) ورجب طيب أردوغان عندما كان مام جلال، يحثه على اصدار عفو عام عن انصار حزب العمال الكردستاني.
كان أردوغان يقول إنّ على أنصار هذا الحزب النزول من الجبل وتسليم أسلحته إلى القوات التركية كخطوة أولى لاحلال السلام. مام جلال كان يردّ عليه بأنّه يجب أن يكون هناك وضوح لجهة نزول التائبين. هل يذهبون إلى السجون أم إلى عائلاتهم وبيوتهم في إطار عفو عام غير مشروط؟
أخيراً سأل مام جلال، أردوغان: سيد أردوغان هل أنت مسلم صالح؟
أجاب أردوغان: سيد طالباني، أكيد؟
مام جلال: وهل تعتبر النبي محمد المثل الأعلى الذي يقتدى به؟
إردوغان: أكيد.
مام جلال: إذاً، افعل ما فعله النبي محمد الذي أعلن بعد دخوله مكة أن كل من يدخل الكعبة أو بيت أبوسفيان... وقل إن من ينزل من الجبل (من الأكراد)، فهو آمن.
اردوغان: سيد طالباني... أنا رجب طيب أردوغان!».
ما يمكن استخلاصه من رسالة كامران قره داغي عن اللقاء بين الرئيس التركي وطالباني أنّ أردوغان ليس من الزعماء الذين يستطيعون التعاطي بمرونة مع الأحداث وهو يرضخ للضغط.
تؤكّد ذلك تجربته مع فلاديمير بوتين وتجربته مع إسرائيل.
فشل في المواجهة الأولى مع بوتين... فسعى إلى الوقوف على خاطره.
كان ذلك بعد إسقاط سلاح الجو التركي قاذفة روسيّة في الأجواء السوريّة في خريف العام 2015.
اضطر، في مرحلة ما بعد افشال إسرائيل المحاولة التركيّة لفك الحصار الذي تتعرّض له غزّة، إلى استرضائها.
لم يكن أردوغان يوماً في حجم أتاتورك، مؤسس الدولة التركيّة الحديثة، ولن يكون كذلك في يوم من الأيّام... عاد رئيساً لتركيا أم لم يعد.
لن يكون أمامه سوى التصالح مع تركيا العلمانيّة ذات القوميات المتعددة.
الأكيد أن الفكر الذي يحمله لا يصلح لمثل هذه المصالحة.
لا يصلح على وجه التحديد لبناء دولة حديثة على علاقة جيدة بأوروبا وأميركا، خصوصاً أن روسيا بوتين صارت، بعد الحرب الأوكرانيّة، جزءاً من الماضي!