مازال أفقُ التهدئة بعيداً في السودان رغم المناشدات الدولية لوقف المعارك الدائرة بين الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان و«قوات الدعم السريع» التي يترأسها نائب رئيس مجلس السيادة الحاكم الفريق محمد حمدان دقلو المعروف باسم «حميدتي».
ولم تنجح اتفاقات وقف إطلاق النار أو فتْح الممرات الإنسانية ومناشدات المستشفيات في لجْم المعارك، لأنها تتخذ شكل الحرب المفتوحة بين حلفاء الأمس وأعداء اليوم، ومن المتوقع أن تستمر في شكل أو آخَر حتى ولو توقف القتال لأن أفق الحلول مسدودٌ في ظل جيشين قوييْن يتقاتلان ويملكان السلاح والدعم المادي اللازم والعلاقات الإقليمية والدولية لفرض منتصر واحد في نهاية الأمر.
لا مصلحة لأي دولة إقليمية في استمرار عدم الاستقرار في الشرق الأوسط في وقتٍ تَجري مباحثات للتقارب بين خصوم الأمس وتُفتح الآفاق على عودة العلاقات بين سورية وإيران وبين دول المنطقة.
وتالياً فإن دول الشرق الأوسط وأفريقيا تشعر بضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار وتحكيم العقل واحترام المدنيين، خوفاً من انزلاق السودان إلى حربٍ تشبه الحرب السورية التي دامت أكثر من 11 عاماً، ومن تمدُّدها إلى دول مجاورة، وبالأخص دول الساحل الأفريقي المتوترة.
ويحاول الاتحاد الأفريقي الاتصال بطرفيْ النزاع من دون أن ينجح في إحداث خرق يؤشر إلى نيات الطرفين بوقف الاقتتال الداخلي. فحرب السيطرة على القصر الجمهوري والمطارات منعتْ وفدَ سلامٍ من كينيا وجنوب السودان وجيبوتي من الوصول إلى مطار الخرطوم غير الآمن.
وفشلت أيضاً نداءات شاركت فيها الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأمم المتحدة وأميركا وروسيا، في وقف المعارك التي طالت العاصمة والقواعد العسكرية في الشرق والغرب وكذلك المنشآت الرسمية مثل التلفزيون الرسمي ووزارات عدة طالها القصف والحريق ودارت حولها المعارك الضارية.
وحوصر عدد كبير من التلامذة داخل الجامعات دون مؤونة، وكذلك عدد كبير من المدنيين بعيداً عن منازلهم بعدما فاجأتهم المعارك وانقطعت الكهرباء والمياه عن مناطق عدة.
وبدأت تجفّ المستلزمات الطبية وأُغلقت بعض المستشفيات لتعذُّر استمرارها في العمل وازداد الوضع مأسوية بعد أيام قليلة من معارك حصدت مئات القتلى وآلاف الجرحى. وهو الأمر الذي أدى إلى فرض وقفٍ موقت لإطلاق النار للسماح بإيصال الإمداد الضرورية وعودة المحاصَرين إلى منازلهم من دون أن تُحل المشكلة من جذورها.
ويتبادل الطرفان الاتهامات بمحاولة كل منهما السيطرة على المواقع الإستراتيجية، إلا أن الخلافَ هو أكبر من ذلك بكثير.
إذ إن التوتر بين أقوى رجلين عسكريين في السودان يأتي على خلفية انطلاق عملية الإصلاح الأمني والعسكري وتَضارُب رؤيتهما حيال قيادة البلاد وأمْنها وثرواتها وعملية الدمج لـ «قوات الدعم السريع» ضمن جدول زمني طُرح لمدة سنتين من البرهان بينما أصرّ حميدتي على مدة عشر سنوات.
ويشمل الاتفاق الإطار الذي كان وُضع على الطاولة تشكيلَ حكومةٍ مدنية واستبعاد المؤسسات العسكرية عن التدخل في الحياة السياسية توطئة لتدفُّق المساعدات الخارجية والنهوض بالسودان الذي ينوء تحت أزمة اقتصادية حقيقية.
ويبدو أن الرجلين متمسكان بالسلطة: فعبدالفتاح البرهان الذي تدرّج داخل المؤسسة العسكرية كان ضمن المجموعة التي أطاحت بعمر البشير بعد ثلاثة عقود في عام 2019 ومَنَعَ تسليم السلطة للمدنيين بانقلاب آخَر عام 2021 بعد مطالباتِ الشعب بالديموقراطية.
وقد ذهب البرهان إلى أبعد من ذلك لدفْع الغرب للوقوف إلى جانبه بعد لقائه في أوغندا برئيس الوزراء الإسرائيلي حينها بنيامين نتنياهو بدعوةٍ من رئيسها يوري موسيفيني في أوائل عام 2020 في مدينة عنتيبي ليفتح الطريق لإسرائيل إلى القارة الأفريقية من بوابة السودان الذي لطالما دَعَمَ القضية الفلسطينية وكان ممراً مهماً لتدفق السلاح إلى غزة. وقد ألغت أميركا قرارَها الذي وضع السودان على لائحة الإرهاب لسنوات عدة من دون أن تُحْدِثَ هذه الخطوة تأثيراً مهماً لدعم الاقتصاد السوداني. ويتمتع البرهان بعلاقات ممتازة مع دول الجوار الخليجي والعربي وكذلك الأفريقي والدولي.
أما بالنسبة إلى «قوات الدعم السريع» التي يقودها حميدتي الخارج عن المؤسسة العسكرية، فتعود بداية الفكرة إلى الثمانينات حين كانت الحكومات المتعاقبة في الخرطوم تستخدم القوات غير النظامية أو شبه العسكرية في عملياتٍ متفرقة كانت تستولي خلالها على الغنائم وهي عُرفت بتغيير ولاءاتها في بعض الأحيان.
وقد استخدمت هذه الميليشيات في دارفور ووفّرت الأعذار المناسبة للحكومة لإنكار مسؤوليتها عن الانتهاكات ضد المدنيين حيث قُتل في المنطقة الغربية أكثر من ثلاثمئة ألف شخص أثناء الحرب التي اشتعلت عام 2003. وأنشئت «قوات الدعم السريع» رسمياً عام 2013، وبلغت قوتها درجةً عاليةً في أروقة الحكم السوداني، إذ اعتقل زعيم حزب الأمة الوطني صادق المهدي في عام 2014 بعد انتقاده لأفعال هذه الميليشيا بقيادة محمد حمدان دقلو الذي اعتمدت عليه الخرطوم لخوض الحروب عوضاً عن الجيش في محيط القبائل العربية خصوصاً دارفور وكردفان.
وفتح حميدتي نافذةً على دول المنطقة أتاحت له بناء علاقات شخصية وفّرت له شرعيةً إضافية ودعماً عسكرياً أكبر. إلا أن دول المنطقة التي تتجه نحو حل خلافاتها وإنهاء الصراعات والحروب حاسمةٌ في دعوتها إلى حل تحت قيادة الشرعية.
ومن الخطأ القول إن «قوات الدعم السريع» مدعومة من دول المنطقة ضد الدولة. علماً أن علاقات حميدتي تطورت مع أوروبا من خلال تنسيق مكافحة الهجرة والتهريب، كما لديه علاقات جيدة مع إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا.
وزعمت الأخبار الأخيرة أن روسيا تستورد الذهب من السودان، لكن السلطة المحلية وصفت هذه المعلومات بأنها غير منطقية. ويتميز السودان بثاني أكبر احتياطي من الذهب في أفريقيا وهو عاشر أكبر مصدّر للذهب في العالم، وهذا المعدن يمثّل العمود الفقري للاقتصاد السوداني.
وتمكّنت «قوات الدعم السريع» من السيطرة والاعتماد على مناجم الذهب ومردود تهريب العاج المنظّم للحصول على التمويل اللازم وهو مورد أساسي للميليشيات السودانية، خصوصاً في دارفور، التي تُنْتِج مناجمها نصف ذهب السودان، حيث يقدر إجمالي الإنتاج على مستوى البلاد بما يترواح بين 80 و100 طن سنوياً، لكن كمية الذهب المهربة تقدر بنحو 18 طناً في السنة، بقيمة تزيد على مليار دولار توفر دخلاً جيداً لقيادة قوات التدخل السريع.
وتعود جذور أبرز القادة العرب البارزين في دارفور مثل موسى هلال وحميدتي إلى العرب التشاديين الذين فرّوا من الحروب والجفاف في تشاد وأصبحوا يمثلون «الجنجويد» (معناها الرجل الذي يركب جواداً ويحمل مدفعاً رشاشاً) الذين سيطروا على المقاطعة الحدودية غرب السودان.
وأصبحت هذه الميليشيات قوية وتملك بين 50 ألف إلى 100 ألف رجل مسلح، لتصبح قوةً مستقلة داخل الدولة وموازية لقوة الجيش في أمكنة عدة في البلاد لدرجة ان إبقاءها أصبح مكلّفاً لحكومة الخرطوم وباهظ الثمن. ولذلك فإن إصلاح القطاع الأمني معقد جداً ويلقى مقاومةً مسلحة من حميدتي.
إذ يحتاج قادة الميليشيات إلى ضمانات وإلى أن يتمثّلوا في القوات النظامية في أعلى المناصب، وتأمين مصادر دخل بديلة ليبتعدوا عن شنّ الهجمات ضد مجتمعات سودانية عدة للحصول على الغنائم التي سيفقدونها في حالة الإندماج الكلي.
ويبدو أن لا علاقة مباشرة لقرار السودان بمنح الموافقة لروسيا لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر – التي بدأت المباحثات في شأنها منذ حكم عمر البشير – وزيارة حميدتي لموسكو بالحرب الدائرة بين المدن وفي الشوارع.
إلا أن الأمر يرتبط بالمصالح الخاصة والمدخول الضخم الذي لا يريد حميدتي التخلي عنه من دون ضمانات، في حين يصمم البرهان على الاستئثار بالسلطة ورفض تقاسمها مع جنرال قوي ينافسه ويتمتع بقوة شعبية في منطقةِ نفوذه ويسيطر على مدخولٍ من الذهب الضخم ولديه علاقات إقليمية ودولية.
ففي عام 2019، كشف حميدتي انه «أودع مبلغ مليار و278 مليون دولار في مصرف السودان المركزي لدعم متطلبات الدولة لشراء النفط والغذاء والطحين والدواء». وقال: «يتساءل الناس من أين أتى هذا المال؟ لدينا رواتب جنودنا الذين يقاتلون في الخارج واستثماراتنا في الذهب وأرباح الذهب واستثمارات أخرى».
كيف يتخلى قائد ميليشيات الجنجويد عن أمواله ومداخيله وسلطته وعلاقاته الإقليمية والدولية ويندمج في الجيش ويتخلى عن مصدر الثروة والنفوذ؟... يتحدث الرجلان - البرهان وحميدتي - عن الديموقراطية وحقوق الإنسان ولكن أحداً لا يريد إعطاء السلطة لحكومة مدنية. وهذا يعني أن أيّ وقف لإطلاق النار موقتاً لن يأتي بنتيجة نهائية في ضمان استقرار السودان لأمد طويل.
أما بالنسبة إلى الدول، فكل دولة تنتظر لمعرفة مَن ستكون له اليد العليا قبل دعمه في ضوء تقييم سياسته الجديدة، وكل ذلك اعتماداً على المدة التي سيستمر فيها القتال ومَن سيتدخل لمصلحة مَن.
وإذا استمرت المعارك، فلن تبقى الدول مكتوفة، بل ستندفع لتَقاسُم النفوذ، وهذا ما سيجلب الخراب على السودان.
إنها معركة انتصار رجل واحد ليتربّع على كرسي النفوذ وموارد الذهب.