أكدّت كتب التاريخ أنه لم يشغف العرب في الجاهلية والإسلام بأكثر من شغفهم بالكرم. وقد كان الكرم العربي ذا سِمة خاصة، فلم يكن موجهاً لغاية سياسية ولا لكسب صيتٍ اجتماعي بل كان كرماً فطرياً نابعاً من بيئة تُمجّد القيم. وقد اهتم التراثيون العرب بجمع نوادر البخلاء، لأنها في عالم العرب مصادفات تستحق التبيان. وكان أصدق قول في وصف الكرم العربي وتبيان صفة البخل قول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة
إنَّ الجَوَاد يرى في ماله سُبلا
فاذا وقع البخل في شهر رمضان تحوّلت هذه الصفة إلى نوادر يتندر بها.
والسر في ذلك أنّ العرب لا يطيقون البخلاء وكذلك يفعل شهر رمضان، فشهر الصيام شهر الكرم وعند صيام العرب له يقال التقى الكريمان.
ولان لكل قاعدة شواذ، فقد انحرفت بعض جينات العرب وفق قوانين الطفرات الجينية فأتى لهم من يعشق البخل ويبدع فيه، ومما قاله أبو نواس في الفضل الذي اشتهر بطفرة البخل تلك قوله:
رَأَيتُ الفَضلَ مُكتَئباً
يُناغي الخُبزَ وَالسمَكا
فَقَطَّبَ حينَ أَبصَرَني
وَنَكَّسَ رَأسَهُ وَبَكى
فَلَمّا أَن حَلَفتُ لَهُ
بِأَنّي صائِمٌ ضَحِكا
ولأن البخل كان من أشد رذائل العرب فقد كان البخلاء يخافون الشعراء خوف الموت، ذلك أن الشعراء في أيام العرب القديمة كانوا هم الصحافة و«الواتس اب» و«تويتر»، فقد دخل شاعر على رجل بخيل فامتقع وجه البخيل وظهر عليه القلق والاضطراب، وحدث نفسه إن أكل الشاعر من طعامي فإنه سيهجوني... غير أن الشاعر انتبه إلى ما أصاب الرجل فترفّق بحاله ولم يطعم من طعامه، ومضى عنه وهو يقول:
تغيّر إذ دخلتُ عليه حتى فَطِنْت
فقلتُ في عرض المقال
عليَّ اليوم نذرٌ من صيام
فأشرقَ وجهه مثل الهلال
وطبخت زوجة أحد البخلاء على غير عادتها طعاماً في رمضان، فجلس الرجل يأكل معها فقال: ما أطيب هذا الطعام... لولا الزحام!... فقالت زوجته: أي زحام؟!... إنما هو أنا وأنت؟ قال: كنت أتمنى أن أكون أنا والأكل لا غير، ولأن طفرة الجينات تلك يتم توريثها فقد ذكرت كتب الأدب حال تلك الأسرة التي اجتمعت في رمضان على لحم وعظم، فأكل الأب اللحم كله ولم يبقَ إلّا عظمة، وعيون أولاده ترمُقُه.
فقال: ما أعطي أحداً منكم هذه العظمة حتى يحسن وصف أكلها.
- فقال الأكبر: أمشمشها وأمصها، حتى لا أدع للذر فيها مقيلاً.
- قال: لست بصاحبها!
- فقال الأوسط: ألوكها وألحسها حتى لا يدري أحد لعام هي أم لعامين.
- قال: لست بصاحبها!
- فقال الأصغر: أمصّها ثم أدقها وأسفها سفًّا.
- قال: أنت صاحبها زادك الله معرفة وحزماً.
رمضان كريم.