الرعيل الأول بفطرته السوية يحكم على الأشياء بظواهرها ويتعامل مع الناس بعفوية وبما ظهر منهم، من غير الخوض بالتفاصيل أو تفاريع المقاصد والنيات، ولكننا اليوم مع الديموقراطية المزعومة والحياة العصرية بالحريات المنفلتة أصبحنا نقرأ المكتوب ليس من عنوانه وإنما على العكس تماماً؟ وتعدى ذلك الداء من الحياة الاجتماعية والسياسية إلى الحياة الأكاديمية العلمية!
فوجدنا آلاف الكتب التي تقذف بها المطابع وعلى مدار الساعة، ووجدنا العناوين أدلّ على نقائضها منها على مفهومها... بحيث تجد العنوان بالبنط العريض وتجد تحته الكتاب البسيط؟ والكتاب الجليل حيث العنوان الضئيل؟ كما قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسدٌ مزُيرُ ويُعجبك الطريرُ فتبتليه
فيُخلفُ ظنّك الرجلُ الطريرُ ولولا خداع العناوين مع حب المظاهر ما سمينا صالحاً وتقياً كل من أطال سبحته ووسّع جُبته وكوّر عمامته، ولكنه مع ذلك يقرأ القرآن فلا يجاوز حنجرته لسوء طويته وخُبث سجيته؟!
ولولا خداع العناوين ما أطلقنا لقب الوطنية من الدرجة الأولى على كل من يملك صوتاً جهورياً يصرخ به عالياً في أحد المجامع، أو كلمة يقولها ويتفوه بها في وسائل التواصل حتى تقام له الحفلات كما تقام لعظماء الرجال، وتمتد إليه الأيادي كما تمد إلى القادة الأبطال؟ وأعجب ما يعجب له المرء في هذه الأيام، أن الشعب أصبح لا يصدق الرجل الصادق والمستور الحال حتى يطالبوه بالشهود العدول والصكوك المؤكدة والأيمان المغلّظة، فإذا قام بين يديها من لا تعرف له عدالة في سيرته ولا صدقاً في قوله ولا إخلاصاً في عمله فادّعى الوطنية لنفسه لأنه نجح في الانتخابات حكمت له الأغلبية بصحة دعواه في الاصلاح ومحاربة الفساد بغير أدنى بيّنة ولا يمين!
ولولا خداع العناوين لوجدنا بين الموظفين الشرفاء الاعفاء الذين لا يحابون ولا يصانعون والقضاة العادلين المخلصين لله، والمؤدين للأمانة في السر والعلن، ولوجدنا من الزراعيين في الحيازات الزراعية والصناع في الحيازات الصناعية المجدّين...
من هو أولى بلقب الوطنية من أولئك السياسيين الصارخين المتهوكين والكاتبين المخادعين؟ يقولون في الأمثال السائرة عند العرب (الولد سر أبيه)، ويعنون بذلك أنه المرآة التي تعكس صورة الوالد والنواة التي تكمن فيها حقيقته، وعلى هذا الأساس جرى عنوان الشرف والسيادة... ثم ما زال الناس يعبثون بعنوان الشرف ويتوسّعون في مضمونه حتى سطّروا في موسوعة غينيس أسماء الجبابرة الذين يسمونهم أبطالاً والسفاحين يسمونهم قادة واللصوص وسرّاق المال العام يسمونهم وجهاء وأعياناً، والظلمة يسمونهم... ما يسمونهم كشريف روما، وزاد تطرفهم بهذا المعنى فسموا قائداً ولو كان مثل تيمورلنك أو غنياً وإن كان مثل قارون، ووزيراً وإن كان مثل هامان وصاحب رأي وإن كان مثل فرعون؟ ولو رجعنا العناوين إلى مضامينها ومحتواها الذي وُضعت من أجله لعرفنا أنه لا مجد إلّا مجد العلم ولا شرف إلّا شرف التقوى، ولا سيادة إلّا سيادة الآخذين بيد الإنسانية البائسة رحمةً بها وحناناً عليها من شياطينها إلى شاطئ الأمان والعيش الكريم.
وإن كان حقاً ما يقولون من أن المدنية والتحضّر والتمدين يُصقل الطباع الخشنة ويهذّب الألسن السليطة ويُهذّب النفوس بالبروتوكولات الغربية... ولكننا نجد الواقع الذي ليس له دافع، نجد أن كثيراً ممن ندعوهم متمدنين متوحشون وكثيراً ممن نسميهم همجيين مهذّبون!
واذا أردنا محاربة الفساد بصوره وأشكاله كافة، وبصورة صحيحة لا أطلب منكم إلّا مطلباً واحداً لا أرى في عقول الغالبية ما يحول بينهم وبينه:
أن يهذّبوا قليلاً من هذه المصطلحات، فلا يسمون المخادع وطنياً ولا البخيل غنياً ولا السارق تقياً ولا المتوحش متحضراً حتى لا يستمر المسيء في إساءته ولكي نقرأ المكتوب من عنوانه.