أبعاد السطور

علي الراوي

9 مارس 2023 10:00 م

«خلقت في الدنيا وأنـا ما معـي شـيّ

وبروح منهـا ما معـي شـي منهـا».

في صباح يوم السبت الفائت 4/ 3/ 2023 توفي أبي في مستشفى الجهراء، بعد أن رقد فيهِ مدة 10 أيام، بسبب أمراض عدة لازمته منذ سنوات، رحم الله أبي كم كان صبوراً مؤمناً راضياً بما يصيبه.

في هذه الأسطر لست بصدد سرد المديح والإطراء وذكر المآثر الخاصة بوالدي من باب الاستعراض أو الرياء والسُمعة، بل لأنه رجل صالح صاحب روح عظيمة بمعنى الكلمة، وصاحب خلق طيب، وكبرياء نادر.

في طفولتنا أنا وأشقائي كان أبي يعاملنا بشكل أكبر من طفولتنا التي نعيشها، وكان يوكل لنا مهاماً تحتاج لخبرة وجرأة وحنكة أكثر من تلك التي في حصيلتنا المعرفية وعقولنا وقلوبنا في تلك الأيام، وإن أخطأنا التصرف في تلك المهام كان يتقبل أخطائنا بابتسامة ورضا ويحرص كثيراً على أن يبينّ لنا كيف نتجنب الوقوع في تلك الأخطاء في المرات المقبلة، وكأنه يريدنا أن نسبق الزمن ونكبر سريعاً عن طفولتنا وندخل في حساب الرجال رغم صغر سننا، وكان يغفر لنا معظم طيشنا وزلاتنا إلا الكذب، فلابد أن يقف عند كذبنا ويحاسبنا عليه حساباً شديداً.

كان سخياً سخاءً من لا يخشى الفقر، وإن سمع أن أحداً من معارفه يمر بضيق يبادر ويذهب إليه على الفور، ويقضي له حاجته بفضل من الله تعالى. وكان رحمه الله من النادر أن يُفلت الضيوف من دعوته الكريمة على الغداء أو العشاء، مهما حاول الضيوف أن يعتذرون له.

وفي مرات كثيرة كان إن بدأ الناس يتكاتفون في تقديم المال للشخص المنكوب يكون أبي قد سبقهم في ايصال المال له، وأيضاً يحرص على وجود اسمه واسماء أبنائه في قائمة الداعمين لذلك المنكوب.

وكان يفرح في شهر رمضان فرحاً كبيراً، ويحرص أن يتواجد المساكين على سفرته، حتى لو كلفه ذلك أن يخرج هو بنفسه يلتمس أحداً من المساكين يدعوه لتناول الإفطار إلى مائدته.

في عام 2009، كنت مع أبي في إحدى العواصم العربية، وذات ليلة شديدة البرد وقبل أن ندخل إلى الفندق اعترضتنا عند المدخل امرأة تستجدي المال، وكانت تحمل طفلها بين ذراعيها، فلما استوقفتنا قالت تلك المرأة وهي تنظر لأبي: «يا حاج، ساعدني الله يساعدك». فمد يده نحو الطفل وأخذ يقبله ويداعبه، ثم طلب من تلك المرأة أن تدخل معنا، ثم ذهب بها نحو أحد المطاعم في الفندق، وبعد أن وفر لها ما طلبت من طعام وشراب أخرج محفظة نقوده وأعطاها مبلغاً مرتفعاً من المال، الأمر الذي أصاب تلك المرأة بالدهشة، فأخذت تبكي وتدعو له بكلمات طيبة جداً، وقبل أن ننصرف قال أبي لها: «كلما تذكرتيني اطلبي من الله أن يساعدني».

وفي إحدى السنوات بعد أن انهينا أنا وأبي مناسك العُمرة، ركبنا سيارة الأجرة حتى نتمكن من الوصول إلى أحد الأماكن الشعبية في مكة، وحينما وصلنا رأى أبي مسكيناً طاعناً في السِن يجلس على الرصيف وهو يمد يده يستجدي المال من المارة، فوقف أبي عنده وبدأ بإخراج محفظته، وما أن أخرجها وفتحها حتى تجمع وازدحم نحوه العديد من المحتاجين، وهم يمدون أيديهم له، وبسبب الزحام سقطت محفظة النقود من يد أبي، فالتقطوها بسرعة وأخذوا ما بها من مال، ثم تركوا المحفظة على الأرض مرمية ليس بها سوى البطاقات الرسمية، فنظر إليّ أبي وهو مبتسم وقال: «الحمد لله، ذهب المال لمن يستحقه».

ولقد كان رحمه الله من الفرسان الشجعان الذين خاضوا حرب الاستنزاف ونصر أكتوبر، على الجبهة الحربية المصرية، وكان من ضمن مجموعة قليلة من الجنود الذين عادوا بسلاحهم بعد أن قطعوا مسافات طويلة في صحراء سيناء مشياً على الأقدام.

ولقد شارك أيضاً رحمه الله في سَرِية المغاوير المقاتلة، التي كانت ضمن القوة العسكرية الكويتية التي اتجهت إلى منطقة الجولان السورية لمحاربة العدو الإسرائيلي، ولقد تم منحه بعد ذلك العديد من الأوسمة العسكرية رفيعة المستوى.

ذات يوم طلبت من أبي أن ينصحني، وكنت أحب أن استمع لنصحه وحكمته، فقال: «عليك أن تعرف أن الخيانة هي رأس القذارة، وأن كل شيء يأتي عن طريق المال هو سهل جداً».

وفي أواخر السنوات من حياته، أصبح كثير الاستغفار والحمد والثناء على الله تعالى، وأيضاً كثير الدعاء في معظم الأحيان وفي معظم الأماكن، حتى اعتدنا أن نراه فجأة يرفع نظره وكلتا يداه عالياً، فنعرف حينها أنه يدعو الله تعالى وإن كنا لا نسمع ماذا يقول.

في يوم الجمعة الذي سبق يوم وفاة أبي، رحمه الله تعالى، أخذ أبي يكرر بشكل ملحوظ هذا البيت من الشِعر الشعبي:

«خلقت في الدنيا وأنـا ما معـي شـيّ

وبروح منهـا ما معـي شـي منهـا».

يكرره وهو في هدوء ورضا. وبالمناسبة فقد كان معجباً في تلك القصيدة التي منها ذلك البيت اعجاباً كبيراً، ويستمع لها في اليوتيوب في أكثر من شكل من فترة لأخرى دون ملل.

رحمه الله في ترديده لبيت القصيدة ذلك، كأنه شَعُرَ بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا، ولقد كان قلبه في آخر أيامه رغم مرضه مطمئناً غير جازع من الموت، وليس نادماً أو حريصاً على أي شيء مادي سيتركه وراءه بعد مماته.

رحم الله والدي، علي الراوي، وجميع الأموات الذين غادروا الدنيا وهم لا يشركون بالله شيئاً ويحبونه ويخافونه ويرجونه، اللهم آمنه من كل خوف، وآنس وحشته في قبره، و اجعله في أعلى جناتك.