إلى أن يُفْرَجَ عن قرار إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان، فإن الثابتَ حتى الآن وجود اسمين هما الأكثر تَقَدُّماً في لائحة المرشّحين، قائد الجيش العماد جوزف عون، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
ورغم أن مجموعةً من المرشّحين أعلنوا رسمياً خَوْضهم السِباق الرئاسي وأن المعارضةَ مُنْقَسِمَةٌ بين مرشّحين، أحدهم ثابت هو النائب ميشال معوض، إلا أن اسمي فرنجية وعون هما الأكثر تداولاً في المشهد الانتخابي محلياً وخارجياً. ولكن إلى أي مدى يمكن أن تتوافر لكليهما أوراقٌ داخلية وخارجية تدعمهما.
يتمتّع فرنجية بأسبقيةٍ رئاسيةٍ على عون.
هو رئيسُ تيار سياسي قديم، وابنُ عائلة سياسية. جدُّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية ووالده النائب طوني فرنجية الذي اغتيل في مجرزة إهدن عام 1978، وابنه النائب الحالي طوني فرنجية.
وسليمان فرنجية الذي كان من أصغر الوزراء والنواب في مرحلة ما بعد الطائف، أصبح مرشّحاً للرئاسة منذ عام 2004، حين كان اسمه مطروحاً لخلافة الرئيس العماد اميل لحود.
ولكن الخيار السوري، وبدفْعٍ من «حزب الله»، رسا على التمديد للحود لتدخل البلاد مرحلةً من الصراع الضاري سياسياً وأمنياً دشّنه زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 والانقسام بين 8 و14 مارس. حينها كان فرنجية وزيراً للداخلية وكان يُعِدّ للانتخابات النيابية وحظي بإحاطة مسيحية وإسلامية، إلا أن كل ذلك انقلب مع اغتيال الحريري، إذ جرى تحميلُه جزءاً من المسؤولية كوزيرٍ للداخلية.
مرت مرحلةٌ قاسية في العلاقة بين الطرف السني وعائلة الحريري وبين فرنجية أحد أبرز حلفاء سورية و«حزب الله».
لكن الروابط التي تَجْمَع زعيم «المردة» بالرئيس بشار الأسد وسورية أقدم وأعمق من علاقته مع الحزب، رغم أنها تطورت في الأعوام التي سبقت وتلت 2005.
سقط فرنجية في انتخابات 2005، ليعود مجدداً نائباً عام 2009، قبل أن يورث ابنه طوني المقعد النيابي في الدورات اللاحقة.
وأول خرْقٍ حققه فرنجية على طريق الرئاسة - بعدما اعتقد أن وصولَه الى قصر بعبدا صار من الماضي - كان حين فاتَحه الرئيس سعد الحريري باحتمال عقد تسوية رئاسية معه بعد الشغور الرئاسي الذي أعقب انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان في 2014.
وكانت تلك المرحلة التي أعادت المياه الى مَجاريها بين فرنجية والحريري الذي أراد فتْح كوةٍ في جدار الأزمة الرئاسية آنذاك.
لكن «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» تَضافرا لإسقاط خيار فرنجية، كما أن «حزب الله» أبدى استياءه من تسوية تمت في باريس من دون أن يكون مطلعاً على كل تفاصيلها فيما كان هو أعطى وعداً للعماد ميشال عون بايصاله إلى قصر بعبدا.
وساهَم اتفاقُ معراب بين «القوات» و«التيار» في «تطيير» حظوظ فرنجية الذي كان فريقُه بدأ يعدّ العُدّة لانتخابه، وخصوصاً أن الرئيس الفرنسي آنذاك فرنسوا هولاند اتصل به مُبارِكاً الاتفاق مع الحريري فيما نُقل أن السعودية لم تمانع في وصوله.
وأَجْهَضَ الاتفاقُ المحلي تسويةَ باريس وانتُخب عون رئيساً في 31 أكتوبر 2016.
نام فرنجية على مضض ولم يصوّت لعون، وبَقِيَ على وعدٍ من «حزب الله» بأنه سيكون الرئيس التالي بعد عون.
واليوم يعود اسمه متقدّماً بعد تزكيةٍ من الرئيس نبيه بري.
لكن حظوظ زعيم «المردة» اليوم مختلفة. فحزب الله لم يعلن رسمياً تبنّي ترشيحه وإن كان أمينه العام السيد حسن نصرالله فاتَح رئيس «التيار الوطني» جبران باسيل به.
ويقود الحزب بصوتٍ خافت معركة فرنجية الذي يحظى برضى بري وبأصوات نواب يدورون في فلك قوى 8 مارس في انتظار أن تحسم الأصوات السنية المستقلة خيارَها، في مقابل رفْض تامٍ من «التيار الوطني» والمعارضة المسيحية والمستقلّة.
وخارجياً لا شك في أن إيران وسورية من مؤيّدي انتخاب فرنجية.
وخلافاً للمرة السابقة التي كانت السعودية غير ممانعة بوصوله من دون أن تُسَوِّقَ له، إلا أنها حالياً ترفض باعتبار أنه مرشّح «حزب الله» وليس رئيساً توافقياً. في حين أن باريس لا تمانع وصولَه، إلا أن لديها أفضلية هي وصول قائد الجيش إلى بعبدا مثلها مثل واشنطن.
وعلى عكْس فرنجية، لا يحظى قائد الجيش بالخلفية السياسية نفسها. آتٍ من بيتٍ غير سياسي، ضابطٌ جنوبيّ متخرّج من المدرسة الحربية، عونيٌّ في نشأته العسكرية ومُوالٍ للعماد ميشال عون، ولم يَبْقَ على وِدّ معه رغم أن الأخير هو مَن سمّاه قائداً للجيش بصفته أحد الضباط القريبين منه.
ينطلق العماد جوزف عون رئاسياً من عُرف كَرَّسَ وصول قادة الجيش إلى الحُكْم في لبنان.
وهو منذ لحظة توليه قيادة المؤسسة العسكرية، أصبح مرشحاً تلقائياً. لم يكن يتمتع بعلاقاتٍ واسعة ومتشعّبة تخوّله أن يصبح مرشحاً تلتفّ حوله القوى السياسية.
لكن بمجرد أن أصبح قائداً للجيش، تحوّل حُكْماً مرجعيةً أمنيةً وسياسية تَعقد معه القوى السياسية علاقاتٍ وثيقةً، ولا سيما أن هناك نزعةً في لبنان للتعاطي مع الجيش على أنه «مُنَزَّه عن كل الشوائب».
ولا شك في أن تظاهرات 17 اكتوبر 2019 وقبْلها حادثة قبرشمون (بين مناصرين للحزب التقدمي الاشتراكي وباسيل) أعطت لقائد الجيش إطاراً أكثر استقلالية عن مرجعيته الأولى أي رئيس الجمهورية، وتلقائياً رئيس «التيار الوطني الحر» الذي بدأ يستشعر «خطرَ» العماد جوزف عون كمرشّحٍ رئاسي.
وبذلك حصد قائد الجيش أول «أعدائه»، أي باسيل الذي كان في الوقت نفسه يتعرّض لضغوطٍ داخلية وخارجية عبر العقوبات الأميركية التي فُرضت عليه، ما قلّل حظوظه كي يكون مرشحاً رئاسياً.
وإذا كان قائد الجيش عَرف أول «أعدائه»، إلا أنه لم يَعرف خلال ست سنوات حقيقة مَن هم حلفاؤه في الداخل، لأنّ ما كان قبل انتهاء عهد رئيس الجمهورية غير ما بعده. فهناك حلقاتٌ نيابية وسياسية كَشَفَتْ عن نفسها بمجرّد أن انتهى العهد (1 نوفمبر الماضي)، كبعض النواب الذين كانوا قريبين من التيار الوطني.
وفي المقابل، أعلنت «القوات اللبنانية» أنها لا تمانع تعديل الدستور وانتخابَ قائد الجيش رئيساً للجمهورية إذا تمّ الاتفاقُ عليه. علماً أن «القوات» تُحاذِر دائما أي «ذبذبةٍ» في العلاقة مع الجيش على خلفية التجارب المُرّة السابقة مع المؤسسة العسكرية التي كانت تُوالي العماد ميشال عون في نهاية الثمانينات.
وكذلك ظَهَرَ بعض النواب المستقلّين ولا سيما من السنّة غير بعيدين عن هذا الجو.
وما عدا ذلك لم يعلن أي طرف تسميتَه لقائد الجيش مرشّحاً أول. فالمعارضةُ المستقلّة لا تحبّذ وصولَ عسكريّ إلى القصر، وقوى 8 مارس لديها مرشّحها لكنها على علاقة جيّدة مع قائد الجيش، و«حزب الله» يوجّه إليه رسائلَ متناقضة. خارجياً، يبدو عون مرشّحاً غربياً غير معلَن، ولا تمانع الدولُ العربيةُ وصولَه إلا أن إياً منها لم تتبنّه رسمياً، رغم أن قائد الجيش زار الدول التي لها عادةً كلمة في اختيار اسم الرئيس العتيد، أي السعودية ومصر.
ففرنسا لا تعارض مطلقاً انتخابَه، بل ان اسمَه صار في لائحة المرشّحين الأساسيين. وواشنطن التي تتبنّى الجيشَ اللبناني عُدَّةً وعديداً وتقدّم له مساعداتٍ وهِبات وتستقبل قائد الجيش دورياً، ترتاح في شكلٍ كامل إلى وصوله لكنها لم تعلن دعمها له من دون سواه، وإن كان اسمُه الأكثر تَقَدُّماً في المداولات التي تُجرى خارجياً.
رغم أن قوى 8 مارس تُجْرِي مداولاتها لتبيان حظوظ فرنجية، والقوى الخارجية تستطلعُ إمكانَ وصول العماد جوزف عون الى القصر، ومَن معه أو ضده، إلا أن القرارَ النهائي بترجيح أيٍّ منهما لم يَصدر بعد.
وفي انتظارِ صدوره، فإن الأصواتَ التي يحتاجها «الجنرال» أو «البيك» (فرنجية) ستصبح جاهزةً بغض النظر عن التحالفات الحالية. فكثرٌ ناموا رؤساء للجمهورية ليستفيقوا مرشَّحين سابقين لا أكثر ولا أقلّ.